حذر أوروبي ملحوظ، فأمريكا العائدة لمد يدها إلى الاتحاد الأوربي ليست تماماً أمريكا المرجوة عودتها، لم تعد إلى موقع القيادة، فهي في نظر الأوروبيين ليست أمريكا التي وقعت على ميثاق الأطلسي الأول، أو أمريكا التي أنقذت أوروبا في الحرب العالمية وتبنت مشروع مارشال، أحد أهم مشاريع إعادة الإعمار في التاريخ المعاصر .
والسؤال هل أمريكا العائدة ستعود إلى القيادة وهي التي اعتبرها محللون تمزقها الانقسامات منها العنصري ومنها الطبقي ومنها الإيديولوجي وكل هذه الانقسامات حادة ومتصاعدة، ناهيك عما تواجهه من منافسة الصين، القطب الصاعد بشراسة وكفاءة وبإمكانات مستقبلية شبه خرافية؟ والأهم هل ستشهد العلاقة بين القوتين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي توتراً أم صعوداً وكيف ستؤثر تلك العلاقة على المتغيرات الدولية؟ هذا ما أوضحه مقال تحليلي نشره مركز الدراسات الإستراتيجية جاء فيه: “بدأت العلاقات بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي رسميًا في عام 1953 عندما زار سفراء الولايات المتحدة الجماعة الأوروبية للفحم والصلب (سلف الاتحاد الأوروبي)، إذ يتمتع الطرفان بعلاقة جيدة يعززها التعاون التجاري والدفاع العسكري والقيم المشتركة، فالطرفان يسيطران على التجارة العالمية، ويلعبان الدور القيادي في العلاقات السياسية الدولية”.
وبين الموقع أن العلاقات الأوروبية- الأمريكية تعنى بشكل أساسي بالسياسة التجارية، فالاتحاد الأوروبي هو كتلة تجارية شبه كاملة، ما يشكل أحد المسائل الجوهرية الأساسية حاليًا بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، حيث يمثل الاثنان معًا 60% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، و33% من التجارة العالمية في السلع، و42% من التجارة العالمية في الخدمات، كما أسفرت التطورات الأخيرة بين كل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة إلى توقيع اتفاقية الشراكة التجارية والاستثمارية العابرة للأطلسي (تي تي آي بّي).
كما يعد الاتحاد الأوروبي أحد الشركاء التجاريين الرئيسيين للولايات المتحدة التي تعتبر هي الأخرى أحد الشركاء التجاريين الرئيسيين للاتحاد الأوروبي، وقد أدى نمو القوة الاقتصادية للاتحاد الأوروبي إلى عدد من النزاعات التجارية بين القوتين؛ رغم أن كليهما يعتمد على السوق الاقتصادية للطرف الآخر، إلا أن هذه النزاعات لا تؤثر إلا على 2% من التجارة، وخاصة على مدار أربع سنوات التي تولى فيها دونالد ترامب مقاليد الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث تدهورت العلاقات مع الحليف الأهم تاريخياً وهو الاتحاد الأوروبي. إذ أخلَّ الرئيس ترامب بالاتفاقيات المشتركة بين الجانبين، ولم يكن هناك أي مراعاة لمصالح الأوروبيين في عدة ملفات، من بينها الاتفاق النووي الإيراني، واتفاقية باريس للمناخ، والأزمة الليبية، وقبل ذلك مسألة أمن أوروبا ومقايضتها بزيادة الإنفاق العسكري الأوروبي أو التهديد بسحب القوات الأمريكية من القواعد الأوروبية.
ولم تتوقف سياسات الرئيس ترامب، الهجومية ضد أوروبا، عند هذا الحد، بل استمرت لتشمل فرض رسوم وضرائب على الصلب والفولاذ الأوروبي، ومنتجاته من الألمنيوم.
وبسبب الإجراءات الأمريكية رفع الاتحاد الأوروبي، شكوى مقدمة لمنظمة التجارة الدولية، وقرر التعامل مع الإجراءات الأمريكية بالمثل، وصرح وزير المالية الفرنسي برونو لو مير أن الاتحاد الأوروبي جاهز لاتخاذ إجراءات مضادة ضد التعريفات الأمريكية الجديدة على واردات الصلب والألمنيوم، كما أصدر الاتحاد الأوروبي قائمة من 10 صفحات بالسلع الأمريكية التي ستخضع لتعريفات جمركية رداً على قرار ترامب، بداية من الدراجات النارية من طراز هارلي دي فيدسون إلى منتجات الويسكي، محذراً من إشعال أمريكا فتيل حرب تجارية مع حلفائها.
وأضاف الموقع: عقب فوز الديمقراطي جو بايدن بالانتخابات الأمريكية بدأت أوروبا تُعِدّ نفسها لمرحلة جديدة من العلاقات مع الولايات المتحدة، يُفترَض أنها ستكون أفضل من فترة ترامب، مع الأخذ بعين الاعتبار تغيُّر الأوضاع على مستوى العالم خلال السنوات القليلة الأخيرة.
ومع شعار «أمريكا عادت» طار الرئيس جوزيف بايدن إلى أوروبا حاملاً معه للحلفاء من قادة دول الغرب وهماً بأن أمريكا التي هم في انتظار عودتها عادت وأن الحلف سوف يستأنف مسيرته بقوة أكبر، فهل ستكون العلاقة بين أمريكا والاتحاد الأوروبي كسابق عهدها أم أن الأخير يرفض اليوم الهيمنة الأمريكية على القرارات السياسية ما يؤثر على شكل العلاقة بينهما؟
وحسب الموقع فإنه في ظل الصعود الألماني والتراجع الأمريكي، يُخيم على المشهد الأوروبي سيناريوهان، هما:
الأول، يركز على القيادة الألمانية المنفردة حيث يصف عدد من التحليلات دور ألمانيا المتزايد داخل أوروبا “بشبه الهيمنة” بسبب نفوذها المتزايد، ودبلوماسيتها النشطة، حتى تأجج النقاش حول “الهيمنة” الألمانية، “والإمبراطورية الألمانية” داخل أوروبا.
وتتصدر ألمانيا بالفعل الكثير من المواقف الأوروبية، والرد على السياسات والتصريحات الأمريكية، وتسعى لفرض نفسها كقوة عالمية، من دون أن يؤثر عدم امتلاكها للأسلحة النووية في دورها القيادي، وإن أسفر ذلك بالضرورة عن جر قدميها إلى سباق تسلح، وزيادة نفقاتها العسكرية، تعويضًا للمظلة الأمنية الأمريكية.
ويدلل على هذا السيناريو، تحرر ألمانيا من تلك القيود التي فرضها الثنائي الفرنسي- البريطاني على تحركاتها الخارجية، فقد كانت ألمانيا أسيرةً للتوافقات الأوروبية التي طالما خدمت المصالح الفرنسية والبريطانية دوليًّاً، هذا من ناحية.
ومن ناحيةٍ أخرى، كشفت الانتخابات الرئاسية الفرنسية النقاب عن تراجع تأثير الأحزاب اليمينية الاشتراكية، لاسيما بعد أن أسفرت نتائجها عن فوز “ماكرون” بالرئاسة على الرغم من عدم انتمائه إلى أيٍّ من الأحزاب العريقة، ما يهيئ الساحة أمام ألمانيا للانفراد بموقع القيادة.
ويتمثل السيناريو الثاني بـ القيادة الفرنسية- الألمانية المشتركة: وهو ما يمكن الاستدلال عليه من خلال تصريح الرئيس الألماني “فرانك فالتر شتاينماير” أمام البرلمان الأوروبي في مدينة ستراسبورج الفرنسية بقوله: إن “قوة أوروبا لا يمكن أن تُقام على قيادة منفردة، بل فقط على مسؤولية الكل”، موضحًا أن ألمانيا تتحمل مسؤولية خاصة بصفتها أكبر دولة وأكثر تعدادًا للسكان في الاتحاد الأوروبي. وهو ذات المعنى الذي يؤكده تصريح المستشارة أنجيلا ميركل بقولها: “لقد ولى الزمن الذي كنا نتكل فيه بالكامل على الآخرين. هذا ما أدركته في الأيام الماضية.. يجب علينا نحن الأوروبيين أن نأخذ زمام أمورنا بأيدينا”.
كما أن عِظم التحديات التي تواجهها أوروبا تستعصي على القيادة المنفردة، ولعل من أبرزها: انقسام القوى الداخلية، وصعود الأحزاب القومية المتطرفة، وتنامي ظاهرة الإرهاب، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والتشكك في القيم الأوروبية الأساسية (مثل: الحرية، وقبول الآخر)، وأزمة اللجوء، وأزمة الديون اليونانية، فضلاً عن الضغوط الخارجية، وغيرها.
وبالمجمل، إن الصدع المتهاوي الذي أحدثته إدارة ترامب يصعب رأبه، بل يتوقع أن يتعاظم ويزداد تصدعًا، طيلة فترة ما بعد ترامب على الأقل، وأن المشهد الأوروبي الآن يُخيم عليه تراجع النفوذ الأمريكي، وتعاظم الدور الألماني، وأيّاً كانت مآلات السيناريوهين السابقين، فإن القاسم المشترك بينهما هو الصعود الألماني في مرحلة انتقالية من النظام الدولي صوب التعددية القطبية، وانتشار القوة عالمياً.
*مركز الدراسات الإستراتيجية العالمي