الصراع الانتخابي الجاري في أمريكا يعيد طرح الأسئلة حول «الديمقراطية» الأمريكية المحصورة بالحزبين الديمقراطي والجمهوري، وخاصة أنه صراع يطول أسس السياسة الأميركية التي شكّل دونالد ترامب محصلتها، فكيف وصلت أمريكا إلى هذا الحد من الانقسام والتنازع المهدد لوحدة المجتمع؟
ترامب منذ أن دخل البيت الأبيض، وفي خطاب تنصيبه في 2016، رفع صوته ضد المؤسسات الأمريكية وتجاوز «القيم» الأمريكية بمهاجمة المناهج التعليمية، وشعارات حقوق الإنسان، واختصر كل ذلك عندما قال: «أنا لست سياسياً». والكاتب بوب ودوورد, في كتابه عن مرحلة حكم ترامب, سمّاها ووصفها في عنوان كتابه بـ«غضب». وبالفعل فقد كانت مرحلة بعيدة عن السياسة, وكانت بحق «غضباً» على الشعب الأميركي وعلى العالم كله، وكشف حقيقة السياسة الأمريكية الساعية للهيمنة على العالم والسيطرة على مقدرات الشعوب، فكانت الخلاصة فضيحة لهوية أمريكا المرجوة، وسقوطاً لـ«القيم» التي ظلت ماركة الأداء الأميركي, وبذلك فإن الإدارات المتتالية استبدلت دور أمريكا بما يفرضه عليها لكونها دولة عظمى، أن تكون عامل استقرار عالمي, وعنصر تفاعل لإطلاق التعاون الدولي لما فيه الخير للإنسانية. استبدلت الإدارات هذا الدور بممارسة دور المافيات الناهبة والمفسدة والمعتدية على الاستقرار والسلم وعلى حقوق وخيرات الشعوب.
إذا كان هدف «الآباء المؤسسين», جعل أمريكا «بوتقة صهر» تصهر كل من فيها ضمن المواطَنة الأميركية، فإن الإدارات المتتالية ظلت تسعى لاستعادة الهمجية الأولى، حتى وصل ترامب ليكون الفضيحة التي عرّت الانقسام الداخلي, والتمايز التعصبي العنصري تجاه الملونين واللاجئين والمسلمين والفقراء. وها نحن نتابع الانتخابات الأمريكية, كما نتابع صراع مافيات تتحضر كل منها لبدء إطلاق النار على الأخرى، الأمر الذي جعل المحال والمطاعم والمؤسسات تضع ألواحاً خشبية ومعدنية على واجهاتها تحسباً لعنف قادم. وهكذا فإن سياسات السيطرة العنصرية نسفت «قيم الآباء المؤسسين»، وحوّلت «بوتقة الصهر» إلى جبهات حرب تهدد الفكرة الأمريكية، وتلغي دورها كدولة عظمى في إقرار السلم والاستقرار الدولي وتفعيل التعاون الدولي لما فيه مصلحة الإنسانية في كل مكان، ليحلّ محلها سلوك المافيات الناهبة والمعتدية والمغتصبة.