عن المرافئ الأخيرة.. وكأنّ كلّ الأمور وصلت إلى خواتيمها!
تشرين- علي الرّاعي:
لوهلةٍ يشعرُ فيها المرء –لاسيما إن كان متابعاً – وكأنَّ كلّ الأمور وصلت إلى خواتيمها.. فيما يُشبه حالةً من العبث تسود اليوم، تجعلك تسأل بكامل الخيبة، وماذا بعد؟
وماذا بعد؟
كلُّ “الأشياء” فقدت دهشتها، أو لم تعد تستطيع الإدهاش، تسأل ما هذا “الكائن” الذي لم يعد يعجبه شيئاً، وتحتار كذلك، هل “الإشكالية” في هذا الكائن – المتلقي، أم الأشياء ذاتها التي وصلت إلى منجزها النهائي، وأقصد بـ”الأشياء” هنا كلُّ المنجزات الإبداعية، وعلى مختلف الصعد كلها..!
منذ نصف قرن، وربما أكثر، لم نعد نسمع بنظرية فلسفية جديدة، ومنذ صاحب الوجودية – سارتر لم يظهر على الساحة فيلسوف يدهشك بتأملاته.. منذ أكثر من قرن لم تبدع العربية شاعراً ومفكراً بحجم أدونيس، حتى القصيدة التي بشّر فيها ومن قبله عدد من الشعراء، وأقصد قصيدة النثر، أصابتها تقليدية ما، فلم تعد تُبهر –ربما – إلا قليلاً، بل إلى القصيدة التي أطلق عليها بعض النقاد بالقصيدة (العارية) اليوم، وكأنها مُقدّة من خشب..!
بعيداً عن “الجعورة”!
نتذكر اليوم، ونسأل أنفسنا: منذ متى لم تدهشنا روايةٌ جديدة، ومنذ متى رُكنت القصة القصيرة على الرف وربما احتضرت تماماً، ومنذ متى لم نحضر عرضاً مسرحياً، يجعلنا نقول همساً “برافو”، وليس كا”الجعورة” التي يطلقها الأصدقاء في العرض، أو في ختامه أي “برافو” المزيفة.
منذ كمٍّ من السنين لم نحضر فيلماً سينمائياً يجعلنا نسترخي أمام شاعرية الصورة، أو نسجّل أحدى جمل الحوار في
(المفكرة ).؟!
يتساءل أحد النقاد المسرحيين، إنّ الجمهور يمكن أن يعود إلى المسرح إذا قُدم له عملاً مسرحياً يُخاطب مشاكله، وبلغةٍ تصلُ إلى مستواه الفكري المتطور، مذكراً ببعض تجارب بعض السنوات التي بتقديره كانت ناجحة، من مثل تجارب بعض الممثلين المخرجين: كغسان مسعود، فايز قزق، عبد المنعم عمايري، ورغداء شعراني..
وهنا، فإنَّ نظرةً متأملة لذلك “النجاح” المزعوم، ننتبه إلى أنّ طغيان حضور الممثل – النجم كان وراءه، وليس الإبداع الحقيقي – ربما- وليس لأنَّ العرض قارب هموم الناس ومشاكلهم، ذلك أنّ الكثير من النتاجات الإبداعية، تقارب هموم الناس، ولكن هؤلاء –الناس- قد لا يقبلون على ما يعكس، أو يقارب همومهم ومشاكلهم..
زمن التفاهة
ثمة تبلدٌ بالأحاسيس اليوم، أو ثمة “تمسحة” عند الكثير من الناس أنفسهم، وليس بالضرورة، أن تكون المشكلة في “الإبداع” بحدِّ ذاته، بل صار أو يكاد أن يكون إجماع ما يطلقون عليه “الجمهور” حول نتاجٍ إبداعي معين قد يشكّل دليلاً على تفاهته، وأحياناً سطحيته، وحتى لا أبقى في العموم، كيف نفسر خلو الشارع العربي من الحركة خلال عرض مسلسل بائس يقوم على ذهنية هائلة من التخلف والبلاهة، أو كيف لسلسلة سينمائية بائسة من مثل ثلاثية أو ربما أصبحت رباعية (عمر وسلمى)، أن تجعل من بعض البشر طوابير أمام شبّاك قطع التذاكر؟!
كيف لمؤدٍ فقس كما فطرٍ في ليلةٍ عاصفة، أن يجعل من امرأة تقفز عليه من علو طابق إعجاباً وتوسلاً لضمه؟! وهنا نذكّر ثمة فرقة راقصة سورية المنشأ كذلك، ولكنها بلون نتاج باب الحارة، تلقفتها خشبات مسارح مدن العالم العربي كلها تقريباً، المدن المنغلقة، أو المنفتحة لا فرق، المتخلفة والغارقة في رمال النفط، أو المفتوحة النوافذ لكلّ رياح التواصل، هكذا عُرفت ذات حين هذه الفرقة بنتاجاتها، التي لا يُشق لها غبار في مضامير الساحات العربية، واليوم انطفت ومسحت من الذاكرة وكأنها لم تكن !!
الأمثلة في هذا المجال لا تعد ولا تحصى، ألم يجتمع العرب على إبداع محمد هنيدي في السينما، وكذلك النجم الفلتة محمد سعد؟؟!
بعيداً عن براثن المعجبين
من هنا – ربما- كانت صيحة أحد “المتفذلكين” في الشعر والمسرح، ممن لم يقترب “العامة” لتناول إبداعه، فبقي مستطيباً العيش في نخبويته، لكن ورغم حالة الكآبة التي تنضح من جبينه يقول – وربما يكون على صواب-: “المسرح والشعر واللوحة، لابدَّ لها من أن تحافظ على عذريتها، وأن تبتعد عن الجمهور، وتحرس نفسها من فاشيته العمياء” ويضيف: أنا لا أريد قارئاً، ولا أريد لأحد أن يقرأ شعري..!
بهذا القول نعود إلى الإشكالية الأولى ذاتها.. لا إبداع يُدهش اليوم، و.. لا متلقي جديرٌ بأن تسعى إليه، باختصار لا شيء يهزُّ الروح أيها السادة.