أشعر بالاكتئاب.. إنّما هي شقشقة
تشرين- ادريس هاني:
أشعر بالاكتئاب، لم أعد أطيق حتى الحديث في أُمّ المآسي، لست هاوي فرجة، لا أقرأ الأحداث بعقلي فحسب، بل أيضاً توجد للأحداث مساحة هائلة في قلب مزّقته صروف دهر عربي كئيب. فطالما لَسْتُ في الهَيْجاء فارساً، فلا يقنعني أي شيء، لا يقنعني أن أصف المشهد أو أرقص رقصة المطر من بعيد.
هناك من يتقنون ذلك حتى تحسبهم فرساناً في سوق المزايدة، إنّها خيبة أمل ألا أكون في خطّ النّار ضدّ صراصير الاحتلال، إنّهم يهينوننا حين نسمح لهم بأن يخاطبونا في بيوتنا عبر الأثير بلغة مدبلجة عربياً، إنّ بعض صراصير الاحتلال يرفعون عقيرتهم بفضل مقاولات إعلامية عربية، إنّهم يهددون بأنّهم سيأكلون «شاورما بربر» بالحمرا، إنّهم ما زالوا على عهد الدّعاية، هؤلاء الذين يتحدّثون لغة الفرسان وهم مختبئون في خوابي التكنولوجيا والإسناد الامبريالي، هؤلاء لن يصمدوا في الميدان بضع ثوانٍ، لن يصمدوا في الحلبة مقدار رمشة عين.
لا قيمة الآن للحسرة والكلام، لوددت أن ادعو كلّ هؤلاء الصراصير لحلبة، اختاروا عشرة صراصير منكم وامنحوني هذه الرغبة، في الحلبة، لن أحكي رواية: ماذا بعد؟ إنكم تتغلّبون بصولة الامبريالية. كم تحتاج الامبريالية من الوقت لينفد إنفاقها على مركزيتها، في عالم تنمو فيه الأقطاب وراء السهوب؟ كم تحتاجون من الوقت؟ فالتاريخ أطول بكثير، ولا يصحّ إلاّ الصحيح.
الحروب باتت جبانة، تقنوية بامتياز، يقولون انتهى عصر الفرسان، ولكن هذه أكذوبة أخرى، فعصر الفرسان مستمر، هو الذي سيهزم لعبة احتكار التقنية، لا يستطيع الاحتلال أن يستمر من دون إسناد امبريالي، ولا تستطيع الامبريالية، كما اعترف هنتنغتون، أن تحمي الاحتلال إلى الأبد.. ثمة طريقتان في التفكير: طريقة التفكير بالأبدية، وطريقة التفكير بالمؤقتية.. الاحتلال مؤقت، والمقاومة أبدية.
كلّ شيء له صلة بالاحتلال بات بديهياً، كل محاولة للعودة إلى عهد المبرهنات والتمسرح، ستعطي فرصة للاحتلال ليتحدث عن وجهات نظر في المسرح الدولي، فما كان بديهياً فلنتحدث عنه بديهياً وبالمباشرة والمراد الجدِّي.. ليس معنا مزيد من الوقت، النار لا تمزح، والقانون متى تفلّت من هيمنة الامبريالية لا يمزح، والكفاح جدّي، فالاحتلال مجرم وكفى.
بقدر ما هو مؤلم أن تُنقل تلويحات صراصير الاحتلال بقنوات عربية، بقدر ما هو مؤلم حين نستمع من صيصان الهزيمة، وفي ذروة المجاملة يعتبرون الإسناد الآتي من تخوم المكافحين الشرفاء من باب تفضيل السيّئ بدل الأسوأ، كأن الضرورة هي التي فرضت عليهم هذا الوضع، وبكل وقاحة تجد سُفهاء الطائفية النّاعمة، يعتبرون المساندة تلك مجرد علاج بالتي هي الدّاء، كما سمعت قبل أيّام ممن هم من سُرّاق الله، وبكل وقاحة، كما لو أنّ شهداء القوم هم بهذا الاعتبار من باب ترجيح السيّىء على الأسوأ.. ناسين أنهم يعبرون عن تكفير خفيّ وحقير لمن هم أشرف منهم في المبدأ والتجارب، متى كانت الصفقات مساراً مُعتبراً؟ تخونهم العبارة، مختبئون وراء ألسنتهم، مهما رقّعوا في خطابهم المتقلّب، فسيقعون دائماً على وجوههم التي تحمل علامات القوادة السياسية، وفي أحسن الأحوال، يعتقد هؤلاء السماسرة أنهم أذكى، ويتعاملون بانتهازية ووصولية، وما دروا أنّ المسألة قضية مبدأ وليست قضية توزيع أدوار.
هنا لا يكفي اللعب بالألفاظ وتضليل الأجيال بتشقلبات وصولية ما لم يذعن المتحوّرون إلى فضيلة الاعتراف واحترام من واجهوا نفاقهم على طول الخط.. أنسيتم؟ فطالما أنتم مصرون على العبث سنذكّركم ولا نبالي.
سأظلّ أذكركم بذلك، ومن رفع عقيرته سأجلد به الأرض، بكل مستويات المبارزة المحترفة.. فتيهوا ما طاب لكم في البرية، وتشعبطوا في كلّ السُّتُر والحبال والقشّات، فإنّ ألاعيب التضليل تجري تحت أنظارنا، ومن قلّ وفاؤه سيجدنا. إنّ النّفاق جرثومة في جسد هذه الأمّة، وقلّة الوفاء طعنة في خاصرة الشرفاء، والشرفاء يحددهم أولو النُّهى لا أولاد الحرام.
الرّهان على قبضات الفرسان لا ألسن الغوغاء والمستثمرين في دماء الشهداء، الانتهازيون تجار القضايا العادلة، الرِّهان على من تحركهم المبادئ لا المصالح الشخصية، على من يحركهم الوُجد لا من تحركهم عقدة حقارة.. لا ينفع الإسقاط، لا نُشبهكم البتّة، نحن أحرار لا عبيد، إنّني أتعبّد بزعزعة نفوس المنافقين، وأتربّص بهم الدوائر، وكلّي أمل أن يشتدّ الوطيس معهم، إنّهم هاربون كالجردان، مختبئون خلف أصابعهم، خلف مسرحياتهم، خلف سردياتهم الكيدية والمتناسخة، ولكن لا بد من لُقيا حامية.
أقول لهذا الصنف من الحيوانات البشرية بأنهم تافهون، وهذا ليس جديداً، ففي عصر التّفاهة لا صوت يعلو على صوتهم، وليس لهم سوى التآمر، والطِّعان، والطمع، والسمسرة، والتّمثُّلات التمثيلية، والمزايدات، والدجل، وكلّ الأفعال النقيضة لطبع الفرسان، ولذلك نزعجكم، لأنّكم قردة خاسئون. إنّ المنافقين يتقنون كلّ شيء، ويتمثّلون كلّ شيء، لكن أنّى لهم تمثّل الفروسية عند النزّال؟
وأعلم أنه مهما طالت الخسّة وتطاول الرّعاع، فالأصل يبقى والزّيف تأكله الأَرَضَة، فلا يُحبنا إلاّ مؤمن عزيز، ولا يكرهنا إلاّ منافق خسيس، لن يُوفّقوا، وبيننا وبينهم كمشة وقت، ولله في خلقه شؤون.