بقيادة المايسترو ميساك باغبودريان وتريات الأوركسترا الوطنية السورية وبرنامج ضخم ومنوّع
تشرين – إدريس مراد:
في أمسيتها قبل أيام في دار الأوبرا، اعتمدت الفرقة السيمفونية الوطنية السورية بقيادة قائدها الأساسي المايسترو ميساك باغبودريان على تشكيلة الوتريات، لتؤدي برنامجاً منوعاً، تضمن أعمالاً تنتمي جلّها إلى موسيقى القرن العشرين “الموسيقى القومية”.
لونغا من سورية
حيث افتتحت الفرقة أمسيتها بعمل من قالب اللونغا للموسيقي السوري وانيس وارطانيان، وهو عمل ذو تركيب لحني رشيق، وقفزات لحنية وانتقالات مفاجئة، ويتطلب السرعة في الأداء حيث يبرز مهارات العازفين وقدراتهم والسيطرة على آلاتهم، وقام بتوزيع هذا العمل باسلوب جميل عازف البزق السوري المميز محمد عثمان.. ووارطانيان أصله من مدينة عنتاب جاء إلى حلب واستقر فيها فترة الإبادة الأرمنية على يد الاستعمار العثماني، حيث أسس فرقة وألّف مقطوعات منها سماعي ولونغا وهي قوالب موسيقية شرقية موجودة في المنطقة وبقيت أعماله موجودة ومشهورة وتعزفها فرق عربية وتراثية.
وزع هذا العمل بأسلوب جميل عازف البزق السوري المميز محمد عثمان
المحطة الثانية للأمسية كانت فالس من سيريناد الوتريات سلم مي ماجور مصنف 22 لدفورجاك، وبدايتها رقصة بلحن هادئ مكرر، ينتقل بطريقة سلسة إلى آلات الكمان لتعطي موسيقى بطابع شاعري وإحساس مدهش، وعموماً تتميز أعمال دفورجاك بجمال ألحانها ومتانة بنائها النغمي والهارموني، وتوظيف الألحان والإيقاعات الشعبية، ويمثل دفورجاك إلى جانب مواطنه سميتانا التيار القومي في الموسيقى التشيكية، وتجلى هذا الاتجاه عند دفورجاك في أوبراه روسالكا ورقصاته السلافية مع أن ألحانها مبتكرة من قبله، ولا تمت بصلة إلى الألحان الشعبية، لكن روحيتها وإيقاعاتها شعبية دون نقاش.
الموسيقى القومية الروسية
العمل الثالث من الأمسية كان الحركة الثانية من سيمفونية للوتريات مصنف 68 رقم2 للمؤلف الروسي مياسكوفسكي، ويعتبر من أبناء الجيلين التاليين للخمسة الكبار للموسيقى الروسية في القرن العشرين، تميزت الحركة بلغة هارمونية مميزة وتلوين أوركسترالي براق، ويكمن جمال موسيقى هذا العمل في ابتكار لحني جياش، كما حاول المؤلف التفنن في التصرف للحن وتحويره بالأساليب الغربية.
تتميز أعمال دفورجاك بجمال ألحانها ومتانة بنائها النغمي والهارموني
ولتشايكوفسكي أدت وتريات السيمفونية الوطنية فالس من سيريناد الوتريات سلم دو ماجور مصنف 48، وقد ألف تشايكوفسكي أعمالاً كثيرة متنوعة وبجميع الصيغ الموسيقية بأسلوبه المتميز، إذ سرعان ما طور اسلوبه الخاص في التأليف ووضع نفسه بعيداً عن جماعة الخمسة الكبار في روسيا وتوجههم القومي مع حفاظه على الصداقة القوية التي تربطه ببعضهم، ولكن هذا لايعني أنه لم يضع موسيقى روسية صميمة.
بيلا بارتوك
أما نصيب المؤلف الموسيقي المجري المميز بيلا باتوك في هذه الأمسية فجاء بعنوان “رقصات رومانية”، كتبها بارتوك عام 1922 واعتبرت من أحب وأنجح مؤلفاته القومية من هذه الفترة وهي قائمة على ألحان فلكلورية رومانية شعبية، تناولها بأسلوب سلس ممتع وبذوق رفيع، وعموماً تميز بارتوك بتوفيقه في صهر عناصر الموسيقى الشعبية لأواسط أوروبا، مع العناصر الفنية للموسيقى الأوروبية ومن هذا الاندماج التام لعالمين موسيقييّن مختلفين خرج بأسلوب موسيقي شخصي، سداه ولحمته ومحصلته النهائية، جمالياً وروحياً، من إبداعه الذاتي، وهذا هو السر الخلود لموسيقاه.
سان سان
العمل التالي جاء بعنوان “البجعة” للموسيقي سان سان، وقام بدور تشيللو منفرد الموسيقي المتميز دائماً محمد نامق، تحدث الكثير من النقاد عن مؤلفات هذا الموسيقي الفرنسي، ووصف البعض بأن أعماله ذات بنية في غاية الوضوح، وعقلانية مفرطة في تقدم اللحن وتطوره باعتماد الحد الأدنى من الإمكانات الأوركسترالية. ويبقى الإلهام، في بعض مؤلفاته، مفتقراً لملامح التعبير العاطفي. وقلما تنطلق قريحته بعفوية في أعماله الكبيرة، لكنها تنبثق بحيوية معبرة في قطعه الموسيقية الخفيفة، ويكمن
ألّف تشايكوفسكي أعمالاً كثيرة متنوعة وبجميع الصيغ الموسيقية بأسلوبه المتميز
فن الموسيقى لديه في الشكل، ورفضه للمبالغات الرومانسية أدى إلى تشبثه القوي بالأشكال والمعايير الأكاديمية، حيث الدقة والوضوح والاتزان والأناقة.
من النرويج
كما أدت الفرقة رقصة أنيترا من متتالية بيير غينت للمؤلف غريغ الذي يستخدم بكثرة ألحان التي لا تختلف كثيراً عن ألحان الموسيقى الشعبية النرويجية الأصيلة ويتمتع غريغ بأهمية بالغة بين المؤلفين الذين أنشؤوا الأسلوب القومي النرويجي، إذ تجاوز أسلوبه القومي الحدود المحلية بسبب الشخصية القوية التي تتمتع بها أعماله خصوصاً مقطوعاته الصغيرة.
تمييز بارتوك بتوفيقه في صهر عناصر الموسيقى الشعبية لأواسط أوروبا مع العناصر الفنية للموسيقى الأوروبية
الأب الروحي للموسيقى الأرمنية
طالما نتحدث عن الموسيقى القومية فكان لابد أن يكون ختام الأمسية مع الأب الروحي للموسيقى الأرمنية الأب كوميتاس وعمله “منمنمات أرمنية”. ربما نستطيع فهم أسلوب كوميتاس في هذا المؤلف من خلال مقالة كتبها هو عام 1899
الموسيقى الكنائسية والشعبية الأرمنية مبنية ليس على الطراز التماني الأوروبي بل على طراز الرباعي
حيث قال: إن الموسيقى الكنائسية والشعبية الأرمنية مبنية ليس على الطراز التماني الأوروبي بل على طراز الرباعي بحيث أن كل آخر نوطة لرباعي يصبح أول نوتة للرباعي التالي…وهكذا فموسيقانا الدينية والدنيوية تبنى على طراز حلقات رباعية، نحن نأخذ رباعياً بسيطاً ونغير تسلسله الأفقي على طراز نصف المقام..” وهنا يحذرنا كوميتاس من أنه حتى عدم وجود ثلث أو ربع المقام في اللحن الأرمني لا يبرر استعمال الهارمونية الغربية على اللحن الأرمني.
هكذاعزفت وتريات الأوركسترا الوطنية السورية، في اتجاهات جمالية مختلفة تأرجحت بين الحب والشاعرية المفرطة وأعمال موسيقية، واستطاع المايسترو باغبودريان كعادته أن يفرض سيطرته الكاملة على الفرقة ويوزع الأدوار بسهولة ويخلق علاقة تواصل وتفاهم بين الآلات، ليتبلور الانسجام التام في العزف، ما يتيح للجملة الموسيقية أن تبدو واثقة وواضحة وفعالة، وإظهار براعة الموسيقيين وتقديم أدوارهم بكل جدية وتفوق.