في حُرمة إتلاف مكاسب النصر
تشرين- ادريس هاني
بعد أن بلغ العدوان ذروته، فتكاً وتخريباً وطُغياناً، ولم يعد ينفع الاحتلال في ثني الشعب الفلسطيني عن صموده وإرادته الحرّة، شعب انتصر على الإبادة بعناد حرّ، وبالأمعاء الخاوية وبالدّم، لكن ابتسامته أصابت الاحتلال في صميم كبريائه، بعد كلّ هذا، ارتفع إيقاع التحدّي بعد انخرام آخر قواعد الاشتباك، فالاحتلال بات مفتوحاً أمام رشقات مؤلمة من نقاط المحور، حيث عزز العدوان من قوة وجدوى وحدة الساحات، لقد وصلت الرسائل، وأدرك الاحتلال وحلفاؤه أنّ توسيع مدى الحرب لن يكون محسوماً، وبأنّ التلويح باستئناف حرب جديدة في سياق تصدّع الكيان عسكرياً واجتماعياً، لا رصيد له من التحقيق.
في هذه الأثناء ستبدأ ملحمة أخرى، ملحمة المفاوضات التي غالباً ما كانت فاشلة، فهل ستأتي نتائج المفاوضات في مستوى التضحيات؟ وهل الاحتلال في موقع من سيُملي شروطاً كما كان يفعل في زمن الهزائم؟
الحذر من تكرار أخطاء المفاوضات السابقة مسألة لا يستهان بها، إنّ القضية لا تتعلّق بالسياسات، بل بسيكولوجيا المُفاوض، هل هو استشعر الشعور الدافق بالانتصار ويتصرف وفق مخرجات ملحمة الصمود النوعي، أم إنّه لا زال مرتهنا لزمن الهزائم؟ تلك هي المسألة.
مسألة أخرى تتعلّق بوحدة الساحات، وهي التهيُّؤ للانخراط في أي مواجهة بعد استهداف أي طرف من أطراف محور الصمود.
عملية الاستفراد بطرف هي من قواعد الاشتباك التقليدية القديمة التي تجاوزها طوفان الأقصى، سيسجل التاريخ أنّ وحدة محور الصمود أدت مهامها التاريخية كاملة، وبأنّ كلّ محاولات تحجيم فكرة وحدة الساحات بشروط يقررها قادة الميدان، باءت بالفشل، لأنها أصبحت حقيقة لا غبار عليها، ولا أفق لأي انتصار خارج هذه الوحدة، لقد كذّب الميدان كلّ أشكال التشنيع ضد هذا المحور، وكنا دائماً نؤكد أنّ مجرد قيام انتفاضة أو حدث واحد، هو كاف لتقويض كل هذه التفاهة التي استُدرِجت إليها الأمة ووجدت لها حاملاً غبياً، هل بقي هناك لسان طويل يصف الشعب العراقي بمن جاء على دبابة أمريكية؟ هل بقي من يصف اليمن بشتى التشنيعات المغرضة؟ هل بقي من يتطاول على المقاومة في لبنان؟ هل هناك من لا زال يراهن على خوض حرب ضد سورية؟ هل هناك من لا زال يقرأ فصول ما سماه بالمسرحية؟ وحدة الساحات حقيقة لا ينكرها إلا دجال، وما أكثرهم على امتداد الإقليم. إنّ المقاومة تفرض على من يحيط بها، إمّا أن يرقى إلى استحقاقاتها التاريخية أو يكون مُتلفاً لحصاد انتصاراتها بسبب الغفلة والتّسامح في أدلّة السّياسات.
هناك من سيسعى لتحويل الانتصارات إلى حدث ستطويه أي عملية تسوية، غالباً ما ستكون منقوصة، ولكن الانتصار هو اليوم أهم من مفاوضات غير جادة، بل هو قضية مستقبل أمة بكاملها معنية بهذا الانتصار، إنّ تعزيز غفلة الأمة عن حقيقة انتصاراتها هي سياسة مقصودة ومنهجية، وهم مستعدون لتقديم بعض التنازلات التكتيكية للحؤول دون تجدُّر هذا الشعور الدافق بالنّصر.
إنّ سيكولوجيا الهزيمة معقّدة للغاية لا يفيد معها أقراص مهدِّئة، ولا تحشيشة السرديات المنفوشة، ومفهوم اليقظة صعب على من لا يجرب فنون القتال، وحظّه من اليقظة نوعها السياسوي في معارك التنافس والسباق على التّقاول والتّظان والتّسمّم، وهذا ليس من فنون القتال في شيء، ندرك المهزوم من نظراته، كما ندرك السماسرة من همس الخطاب. يقظة المقاوم لا يدركها حتى دراري العسكرتارية الذين لا يتقنون الجري باعتدال. المقاوم يُصرف بهؤلاء صرف الدينار بالدرهم، وسمته جزء من شروط النّصر، رحم الله من لم يجرب فنون الاشتباك ألا يتحدّث عن قواعده.
ليس من حقّ أحد أن يُتلف مكتسبات كفاح مرير، صمود بحجم الجبال الرواسي، دماء لم نشهد لها مثيلاً في الجريان اليومي، انظروا في عيون الطفولة والثكلى، ألا يستحقون صموداً سياسياً لحماية مكتسبات كل هذه التضحيات؟