عن «مقاومة الاستكانة والخروج من أغلال السائد».. ميمي أوديشو: الشعر خالدٌ عندما يستعير الآخرون حنجرة الشاعر
تشرين- حوار: بديع صنيج:
منذ العتبة الأولى لمجموعة الشاعرة ميمي أوديشو، وأقصد عنوانها “لُحىً مُحنّاة بطمث النكبة”، يقف القارئ أمام تركيبة لغوية تشي بالمضمون وجرأته في اقتحام المُحرَّمات من زاوية خاصة جداً، تتفلَّت من قيود التقليد والشَّبَه، وتسعى ما استطاعت لنسج كينونة شعرية مُتحرِّرة من الثوابت والشعارات، في مقابل التزام قوي بروحية الإنسان وجماليات وجوده بعيداً عن أي شيء يحدّ من طاقة جسده وفكره ورؤاه.
ولذلك نشعر بالقصائد على عذوبتها وشفافيتها الموسيقية، إلا أنها مُحمَّلة بالصُّراخ في وجه البشاعة والطغيان والاستبداد والحروب، ورغم اتكائها على الرمز والكنايات، يبقى وضوحها ناصعاً، وفلسفتها بسيطة في مخاتلة الواقع البشري المُظلِم، فكل ما ترجوه عبر هذه المجموعة هو مقاومة الاستكانة والخروج من أغلال السائد، نحو فضاءات شعرية ثائرة على الظلم والاستعباد وتأطير المشاعر بدواعي الفضيلة التقليدية.
وبين الغزليات الشفيفة، ومداورة الألم في الأوطان المكلومة باليأس، ، تنسج أوديشو سردياتها الشعرية وومضاتها عبر 395 صفحة، ضمن أربعة فصول هي “اشتباكات تمر نازح، بلح بالتَّبنّي، تلاوات الجمّارة، تراويح سعف مصلوب”، وأكثر ما يوحّدها هي لغة تُجاهِر بصِدْق الصَّوت، وتنقل البحّة باستعارات تؤكّد المعنى وتجعل سهام القصيدة تصيب منتصف الهدف تماماً.
ولا تكترث الشاعرة الآشورية من مواليد سورية وأصول عراقية في صقل بلاغتها ومحاوراتها العاشقة بمفردات يومية تارةً وبأحابيل فلسفية وأسطورية تارة أخرى، إذ تسعى في مجموعتها لأن تصهر ذهب الفكرة وتُعيد صياغته بتأنٍ كبير، وأيضاً بعفوية مبهرة، تاركةً لاسترسالاتها الشعورية أن تُداعب روح القارئ وأذن المستمع بحَنان صوتها وبحّته المجبولة بعقود من الألم، والهرب من المجازر، ومداراة الخيبات المديدة، والبوح العاشق للإنسان والوطن وقِيَم الجمال والخير والحرية.
تقول أوديشو:
“أشعر أني دمعةٌ في حضن ساعةٍ رملية
لا نهايةَ لمتاهات الزمن فيها
مسجونةٌ في حضن سجين
أنتظرُ الفرج بانكسار
أشعر أني دمعةُ أرملةٍ صبيّة
دمعةٌ مبهمة الهوية
تراقبها الأحداق
لترجمها بالأقاويل
دمعةٌ ترثي الانعتاق من القيد بقيود
أشعر أني دمعة
بالكاد تشق طريقَ تجاعيدها
مُحمّلةٌ بحشرجات قصب
وازدحام الصلوات…”.
ومن تلك الدمعة تتأجج فيضانات عابثة، ترفض الانصياع لما هو كائن، وتُعيد ترتيب الكون وفق هواها، غير عابئة بالشرائع والقوانين والموروث، لأن غاية الشعر هي تثوير الفكرة واللغة والمشاعر بغية إعادة صياغة العالم كما تشتهيه النفس الشاعرة، وفق تصاوير مميزة، بتكوينات خاصة وبألوان مغايرة ونَفَسْ فريد في التشكيل، يقود في النهاية إلى نوع من التطهير وطمأنينة النَّفْس وسكينتها.
“معشوقي من يَغْزِلُ بقُطنِهِ المُحنَّى بِدَمِ أحبّائِهِ
ثوباً يليق بمن تتنفّسه
وشاهداً على ارتكاضِ رحمي
رحمي الذي سيلد ثورةً تنادي
شتاءُ الغربة زائل… والربيع البابلي قادم
معشوقي.. استدرتُ وقلتُ: “مهلاً.. لم تقل لي
من أنتَ أيها المستقبل؟”
نظرَ بثقةٍ وقال:
“أنا قدرك.. يا سوريّةَ الملامح
أنا قدرك..
أنا العراق”.
التقينا الشاعرة ميمي أوديشو وكان معها الحوار التالي:
* عنوانا مجموعتيك الشعريتين صادمان “صلاة في مبغى اسمه العالم” والآن “لحى محناة بطمث النكبة”، وكلاهما يحمل معه سوداوية مفجعة وجرأة كبيرة، لماذا تتقصدين هذه الفلسفة في عناوين ما تكتبين؟
عندما تزداد الظلمة يزداد المرء يقيناً بأن من واجبه الإنارة، وكلما ازداد العالم ظلاماً ازددت يقيناً بأنني يجب أن أكون النور، وأن أسلط الضوء على السواد، حتى ينتفي من أساسه، لأنني بذلك أصبح كالقنديل الذي اخترق قلب السواد، هذا ما أسعى إليه، لاسيما أن الإنسان بالنسبة لي هو كواكب ونجوم يضيء أينما ذهب.
* الوطن حاضر دائماً في قصائدك، رغم أن هويتك مركَّبة، عن أي وطن تكتبين؟
أكتب عن الوطن الحضاري الذي كان مشعلاً للنور. عن الوطن الذي احتضن ذاك الإنسان البنّاء وما تركه لنا من إرث علينا أن نترجمه.. الوطن بالنسبة لي هو كل إرث حضاري، هذا التراث الجميل، الراقي، الهوية التي بنينا على أساسها، التي بنت الإنسان السوري والعراقي والكنعاني والفينيقي والآشوري. هذه المنارات هي الوطن الحقيقي، لأننا كلما تفرّعنا ابتعدنا عن المركز أو مصدر النور، وكلما عدنا إليه ازددنا توحداً ووحدة والتصاقاً بشيء اسمه النور. عندما نبتعد عن النور نصبح في ظلام، أما العودة إلى النور والجذر يجعلنا كعيدان ثقاب نتقارب فنصبح حزمة ثم نتحول إلى نيزك فشمس، وما أحوجنا إلى شموس تنير الغد لنا ولأولادنا.
* هل تتحدثين عن الشمس لأنك الآن في سورية بلاد الشمس؟
دائماً نحن أبناء المشرق، وأنا ابنة النور، أنا ابنة عشتار، وابنة شاميرام، وابنة النور، والمعرفة والثقافة التي علينا أن نعكسها أينما ذهبنا.
* لاحظت ببعض ما قرأته أن للغتك مستويات عدة رمزية وفلسفية واجتماعية…، وفيها نبرة موسيقية مختلفة، وصوتك يمتلك عمقاً فريداً، فمن أين لك هذا الصوت الجميل؟ هل هو “موروث” أم هو “إرثك” وأنا أعلم موقفك من هاتين الكلمتين؟
دائماً أصر على التمييز بين التراث والموروث، فالموروث هو شيء عالق فترة زمنية وظننا خطأً أنه جزء من هويتنا، أما التراث فهذا الذي لا يَعتَق، فهو كالقمر أبدي ويبدو جديداً في كل شهر وكل يوم، أما بحة صوتي ففيها من قصب العراق، ومن إشراقة قاسيون وشموخه، من قسوة القرية ونعومتها، فيها من ضجيج المدينة وغربتها، من الترحال والأنين، وفيها الكثير من المذابح التي نجوت منها، لكن أيضاً فيها الشجن الذي من الممكن أن نغني به ترتيلة وتراويح، وتسابيح وابتهالات، للأطفال القادمين حتى لا يفقدوا الهوية الروحانية والتصوف والإيمان والتسابيح التي هي من السباحة في الفضاءات الكبرى، هذه البحة قديمة جداً، وفيها أيضاً الكثير من التعب والإرهاق والاغتراب، والكثير الكثير مما نخفيه وهو عالق في حبالنا الصوتية، وهي إما مشارط أو مديات أو أمنيات قيد التسجيل، وأحلام قيد العمل عليها لتحويلها إلى حقيقة ما أو إلى مجرد خبز. غيرنا ممكن أن يأكل فيشبع فيخلق نكهة جديدة لحياة قادمة.
* هل هذه السكاكين هي ما تخرجينه بواسطة الشعر؟
أنا أطلقها عن طريق الشعر، عن طريق الفروسية، عن طريق الكحل، عن طريق الخصلة، عن طريق الأناقة، عن طريق إكسسوار صغير ممكن أن أرتديه، وأقتل به رتابة الجسد واليوم واللحظة، وأضيف إليها نكهة معينة، حتى لا نأكل الأكلة ذاتها بالمقادير ذاتها في أيامنا المكرورة، ورغم الحنين أحياناً إلى الرتابة والعادية، لكن يجب علينا أن نضيف بشكل دائم ولو شيئاً صغيراً.
* أحاول أن أعرف تعريفك للشعر؟
القصيدة هي احتيال، هي بيع الوجع في عُلَب ثقافة، هي المراوغة خلف الكناية، لكنها ليست بوحاً صادقاً حيث نستدرج الآخر لأن يمعن النظر، ويفرد جناحيه، يذهب إلى خياله، إلى مشاعره، يلعب على نوتات الأحاسيس، بالتالي نصل بألا نفقد روحانية الإنسان. الإنسان ليس روبوتاً رغم الحروب التي تحولنا إلى روبوتات وأرقام، وممكن أن نقول لجثث متنقلة، أكفان ناطقة، توابيت متحركة، الشعر هو النبرة التي يمكن أن نلتصق بها بروحانية الإنسان.
* أليس الشعر هو كفاح أيضاً؟
هو سلاح لا يلين، قد يجرح الإنسان مرة، وقد يموت بطلقة، إلا الشعر يبقى خالداً ودائماً إذا رَضِيَتْ به المكتبات والرفوف، أو إذا بقي في صفحات فتاة عاشقة، أو رجل عسكري مرابط على الحدود يحاول أن يكتب جملةً ولا تسعفه الطلقة أو الخندق، فيستعيد ذلك بحنجرة شاعر.