“كان يا ما كان”.. أين ضاعت شخصية “الراوي”؟
تشرين- جواد ديوب:
«كان يا ما كان..» جملة سحرية بمجرد أن يبدأ بها الراوي كلامَه، تنفتحُ في مخيّلاتنا بلادٌ عجيبة، وأحداثٌ غرائبية، وشخصياتٌ لا تنسى مثل «السنافر» التي ابتكرها الرسام البلجيكي بيير كوليفورد، ومثل «جيم» و«سيلفر» مع القراصنة الباحثين عن الذهب المدفون في «جزيرة الكنز» للاسكتلندي روبرت ستيفنسون، وكذلك «ميدوزا» الأسطورية التي انقلبَ شَعرُها إلى أفاعٍ تُحوِّلُ الناظرَ إلى حجر، وحكاية «الحوت الأبيض» التي نغوصُ معه لنزور حضارات عتيقة مدفونة في أعماق البحار… فمَنْ منّا لم تَحكِ له جدتُه، أو روى له جدُّه، أو حكى هو لأولاده حكاياتٍ يسترجعها من خزّانٍ تراثي عالمي لا ينضب؟
اليوم، حين أشاهد بعض برامج الأطفال على الفضائيات، أشعر بحزن شديد على ضياع «شخصية الراوي» فيها، واندثار فكرة «الحكاية» منها، وأتذكر بحنين جارف برامج الأطفال المميزة التي عرضها لنا التلفزيون السوري، مثل برنامج «كان يا ما كان» تأليف داوود شيخاني، مع الشارة الموسيقية الرائعة «هذا أوانُ الحكاية فلنستمع للكلام، ففي الحكاية غاية ومتعة وانسجام» من تأليف الراحل فاهيه تمزجيان.. كذلك برنامج «حكايات عالمية» وشارةُ البداية التي لا تنسى «في قصص الشعوب، طرائفٌ لا تنتهي، وعالمٌ حلوٌ بهي، يسكن في القلوب» من تلحين الموسيقي الراحل حسين نازك وغناء أصالة نصري.
شخصية “الراوي” لم تقدّم لنا في برامج الأطفال فقط، بل كان للدراما السورية أيضاً دورٌ مميز في ترسيخ فكرة وجود من “يحكي الحكاية” بأسلوبٍ مسرحيٍّ سواء كانت تراجيدية أم كوميدية، نذكر مثلاً: شخصية “ابن الروميّة” التي قدّمها الراحل عبد الرحمن أبو القاسم باقتدار واحترافية في مسلسل “الجوارح” (تأليف هاني السعدي وإخراج نجدت إسماعيل أنزور)، وشخصية الجدّة التي قدّمتها الممثلة المخضرمة سامية الجزائري في مسلسل الأطفال الدرامي “كان يا ما كان”، وهناك شخصية الراوي التي تقمّص أداءَها الصوتيّ الراحلُ تيسير السعدي حين حكى لنا أحداثَ السيرة الشعبية “الزير سالم أبو ليلى المهلهل” في المسلسل الشهير (تأليف الراحل ممدوح عدوان وإخراج الراحل حاتم علي).
ليس قولي هذا تعلّقٌ واهمٌ أو استرجاعٌ يائسٌ لـ«أمجاد الماضي»، لأني أعلم جيداً أنّ نهر الزمن الهادر لا يتوقف، وأن ليسَ هناك لحظتان متشابهتان في الحياة البشرية لأن التغيّرَ هو واحدٌ من قوانين الحياة، وأن «أطفالنا خُلقوا لزمانٍ غير زماننا»، وأن ما يتعرضون له الآن يفوق قدرة الجبال على تحمّله، لكنني أفتقد فعلاً ذاك التواصل الحميميّ الذي عشناه، والودّ الحنون في العلاقة بين الأجيال، تلك الألفة التي رسّختها برامج الأطفال التي ذكرتها وتلك المسلسلات الدرامية، إذ بات حال بعض أطفال جيل اليوم كحال الطفل في الحكاية التي تقول: كان يا ما كان، في هذا العصر وهذا الأوان، طفلٌ يسأل جدّه بامتعاض وسخرية: جدّي كيف كنتم تعيشون حياتكم من دون فيسبوك وتويتر وكاندي كراش وواتس أب وإنستغرام؟!، فيرد عليه الجدّ: يا ولدي تماماً مثلما تعيشون حياتكم اليوم من دون قيم!
ولأن للحكايات دائماً عبرة ما، فليس المقصود برأيي من الطرفة عن الجد والحفيد هو فقط إلقاءُ اللعنة على التكنولوجيا الحديثة و”الثورة الرقمية” عبر “وسائل التواصل الاجتماعي” بوصفها وسائل شيطانية وافدة إلينا ضمن سياق مؤامراتي عالمي، إنما لفتُ نظر الأحفاد و(الأهل والمربّين) إلى أن تلك التطبيقاتُ الذكية يجب أن تكونَ أدواتٍ في خدمة الإنسان يستثمرها نحو تعميم الجمال مثلما يستخدم الفنانُ السكينَ للنحت والرسم، لا أن نكونَ نحنُ “عبيداً للتكنولوجيا” كما يُذكرنا وينبّهنا دائماً صوتُ الراوي/ الإعلامي الراحل محمد السعيد في مقدمة المسلسل الأيقونة “ضيعة ضايعة”!