آفة العلم تجاهل الأمر نفسه
تشرين- إدريس هاني:
كيف يتلقى العقل الظاهرات؟ هنا مربط الأفراس وابتلاء الفرسان. ومن لم يدرك هذه النكتة، أنَّى له أن يظفر بأحكام وتعالق العقل والعاقل والمعقول؟ وما اتحاد أولئك عند التحقيق في الخارج تعيناً، كما في الحكمة المتعالية، إلا تعبير عن حقيقة الأشياء في نفس الأمر، حيث يعجز المنطقي أن يتناولها نيلاً ومنالاً ومنوالاً، إلا منتزعة بما يقتضيه الوجود الذهني المنفتح على كل أنماط الوجود المجرد، أي غير المتعين خارجاً، وهو غالباً ما يتحد مع غيره في شروط بنيوية.
والناظر في نفس الأمر غير آبه بشواغل العُروض وأنحائة بشروط الوجود الذهني، حيث تنوع الأنحاء من وظيفته، بل هو ناظر في اتحادها عينياً في الخارج، اتحاد الكلي الطبيعي مع أفراده.
ومن هنا رأينا كيف سلك الأصولي كصاحب الفصول وصاحب الكفاية، مسلكاً مخالفاً لما اشتهر من أولوية العلمي على الواقعي، بالتأكيد على مؤثرية الوجود الواقعي لا الوجود العلمي، واللاواسطة في العروض، وهو ما خفف من شواغل العقل، حتى باتت موضوعات العلم هي عين موضوعات مسائله.
إن ما رامه أرباب تهذيب الصناعة، هو خطوة سبقت حالقة الآكامي، وأرست أسس الاقتصاد في العلم، ذلك الاقتصاد الذي يجب في نظرنا أن يدبر علاقة الفاهمة بنفس الأمر، تدبير الجدل العقلي بين الظاهرة والنفس الأمري طيَّها، حيث مثول الظاهرة أمام الفاهمة، لا يعفيها من حدس النومينا بنحو من أنحاء التقريب الذهني، احتمالاً وتنسيباً.
إن تجسم المعاني في صقع الوجود الذهني، يساهم في نسيان نفس الأمر الذي يحيلنا إلى البنيات غير المجردة، هذا التفكيك يساعد على اختراق الواقع وليس التّنزُّل بديلاً عنه، لعل واحدة من مصاديق نسيان الوجود، هو الاكتفاء بالوجود الذهني عن نفس الأمر، تعويض النومينا بنحو من العُروض الفينومينولوجي، قوامه تعزيز أُزعومة استحالة العلم، وذلك نتيجة تجاهل الدور الاستراتيجي لحدس وجود النفس الأمري طَيَّ الظاهرات، في اتحادها عينا، في بنيتها العميقة، جدل الظاهر والباطن، جدل الحدس والبرهان واتحادهما، اتحاد العقل والعاقل والمعقول، اتحاد المعرفة والوجود، وهو ما طمحت إليه الحكمة المتعالية في مقاصدها الأُنطولوجية ومسالكها العبر _مناهجية. إن تجاهل اتحاد الظاهرات عيناً في الخارج، يحرم العقل من ملامسة الوجود في نظارته، وحين نتحدث عن العقل المجرد على التقسيم التقليدي، فالتجريد ذاتي للعاقلة، ولكننا نراهن على حدس الوجود، حيث البرهان خادم للحدس في المبتدأ والخبر.