عاش واحداً وثلاثين عاماً الموسيقار سيد درويش.. إنجازات كبيرة خلال عمر قصير
تشرين- إدريس مراد:
ظهر ميل سيد درويش الذي ولد في الاسكندرية عام 1893 للإنشاد في البدايات، منذ دخوله الكتاب، ودفعته غريزة موسيقية وهو في سن الثالثة عشرة إلى إحياء مولد في أحد الأفراح مع فرقة إنشاد، وعندما مات والده وهو في مقتبل العمر اضطر للعمل في مهن عديدة، يحمل مواد البناء ويثير حماس زملائه بصوته وأغانيه، ويستلهم من هتافات الحمالين ومطارق البنائين ألحاناً وأغنيات رددها المصريون، ولاسيما الكادحين منهم، وحين واتته الفرصة التحق بمعهد الاسكندرية الديني، وعمل مقرئاً ومنشداً بالأفراح والمآتم ليلاً، إلى جانب دراسته.. سمع به سليم عطالله صاحب فرقة تمثيلية بالاسكندرية فضمه إلى فرقته، وجاء مع الفرقة إلى دمشق حيث مكث فيها مدة خمس سنوات، تلقى خلالها فن الموسيقا على يد أحد مشاهير الفن اسمه “الموصلي”، ومن هنا بدأ شهرته بين رجال الفن.
يستلهم من هتافات الحمّالين ومطارق البنائين ألحاناً وأغنياتٍ رددها المصريون
الاستعداد الفطري
الواقع أنّ سيد درويش كان على استعداد فطري موسيقياً، ومن آيات هذا النبوغ الفطري أنه لما تأثر بسماع أوبرا “ريجوليتو” للمؤلف الإيطالي فيردي على مسرح الأوبرا، تمكن من أن يقتبس منها تآلفاً غنائياً من ثلاثة أصوات ووضعه في ختام الفصل الأول من رواية شهرزاد، ولذلك يرجح العديد من الباحثين أن درويش هو أول من استعمل توزيع آلات الأوركسترا الغربية في الموسيقا العربية، وأدخل إليها البوليفونية “تعدد الأصوات”، رغم الكثير من الأقاويل التي تؤكد بأنه كان يجهل النوتة الموسيقية وعندما كان يلحن أي قطعة موسيقية يلازمه أحد أفراد الجوقة ليدون ألحانه، بمعنى أنه كان لا يقرأ الموسيقا ولا يكتبها وإنما يلتقطها التقاطاً بالموهبة، ومع ذلك تأثر بالجو المصري الذي عاش فيه، فما من حادثة مرت أمامه إلّا وغناها، وما من فئة من فئات الشعب إلّا وأنشد لها، ويتجاوب مع الظرف والمكان، حيث صاغ ألحاناً قومية في شتى المناسبات، ونستطيع القول إن سيد درويش هو بداية التيار القومي في الموسيقا المصرية، ولم يكن مجرد ملحن مجدد، بل تحول إلى مؤرخ، خط بالموسيقا أحداث التاريخ، وهنا يمكن لنا أن نذكر أغنية “الوالي أبو زعيزع”، تلك الأغنية التي هاجم بها درويش الحاكم وحاشيته في ظل الاحتلال الإنجليزي، لتكون سبباً في معاقبة كل من يردد أغنيات درويش، الذي أطلق عليه المصريون “فنان الشعب”.
ألحان للمسرح والرواية
لحن كثيراً من المسرحيات الغنائية، إضافة إلى تلحينه عشرين رواية، تخلو نغماتها من “ربع الصوت”، نفذت جلها بلغة أوركسترالية، وأول رواية استعراضية لحنها كانت مسرحية بعنوان “ولو”، والتي وضع فيها أميز أغانيه مثل “مطرح ما تمشي ما تسمعشي، والحلوة دي قامت تعجن في البدرية، ويهون الله ع السقايين”.
جاء مع الفرقة إلى دمشق حيث مكث فيها مدة خمس سنوات
مقام الزنجران
ينسب لدرويش اختراع مقام الزنجران حيث استقاه من خلال سفره إلى الصعيد الأعلى على مقربة من بلاد النوبة وعاد بحصيلة من النغم النوبي “الزنجران”، الذي ألف عليه الدور الشهير “في شرع مين”، وعندما قرر درويش ألّا يلحن أوبرا “شمسون ودليلة” قبل أن يسافر إلى الخارج ويدرس الموسيقا بلغة بيتهوفن وموتزارت وغيره، مات قبل السفر وهو في مقتبل العمر، وهنا وقفت حياة عبقرية موسيقية كانت أمامه سنوات ليعطي أكثر وأكثر، ويضع اسمه مع أسماء الكبار في عالم الموسيقا.
القتل بالسم
هناك الكثير من الأقاويل حول وفاته ولكن الرواية التي يرجحها الكثير بأنه مات مسموماً، وإن الاحتلال الإنجليزي هو وراء قتله بسبب أغانيه التي رددها الشعب المصري ضد المحتل، ويؤكد البعض بأن أسرة سيد درويش طلبت تشريح جثته آنذاك لمعرفة سبب وفاته، إلّا أن السلطات رفضت ذلك تماماً، ما يقطع الشك باليقين، توفي سيد درويش عام 1923، ولم يتجاوز عمره واحداً وثلاثين عاماً، تاركاً إرثاً موسيقياً كبيراً تعدى مئتي عمل غنائي، بين موشح وطقطوقة ودور وأوبريت، ومن أغانيه على سبيل المثال لا الحصر “أهو دا اللي صار، الوارثين، على قد الليل ما يطول…”.
درويش هو أول من استعمل توزيع آلات الأوركسترا الغربية في الموسيقا العربية، وأدخل إليها البوليفونية
واليوم من يزور المتحف الوطني للموسيقا والتراث بالقاهرة يجد تمثالاً نصفياً لدرويش، بشعره المجعد، وبدلته الرسمية وربطة عنقه الأنيقة، اللتين ارتداهما بعد أن خلع الشاب الأزهري الجبة والقفطان والعمامة، وآلته الموسيقية “العود”، وطربوشه وعصاه، وعقد زواجه من جليلة بنت عبد الرحيم، إلى جانب بعض النوت الموسيقية والأسطوانات الأصلية.