الحرب على غزة وآثارها الاقتصادية الكارثية على الكيان الإسرائيلي
د. موسى الغرير:
ليس خافياً أن للحرب آثاراً سلبية سواء على الدول التي تشنها أو التي تقع عليها وتكون ساحة لها، وأن هذه الآثار تتفاوت في شدتها تبعاً للنجاح أو الفشل في تحقيق أهدافها، والحرب التي يشنها الكيان الإسرائيلي على غزة وبتعبئة واسعة للطاقات المالية والبشرية تترك آثاراً على أكثر من صعيد، أولها تخصيص نسبة من الموارد للعمليات العسكرية: بهدف تأمين متطلبات استمرار الحرب يتم توجيه جانب لا يستهان به من الموارد البشرية والمالية للأعمال الحربية بدلاً من توجيهها لأغراض تنموية أو تطويرية، الأمر الذي يؤدي إلى تخفيض نسبة الموارد المخصصة للتنمية، والتسبب بإعاقتها، وحسب بعض التقديرات تصل تكاليف حرب العدو على غزة إلى أكثر من 220 مليون دولار يومياً.
والصعيد الثاني هو تعطيل نسبة متزايدة من قوة العمل: تؤدي الحاجة إلى الاستمرار في الحرب العدوانية على غزة إلى تعبئة الاحتياطي من قوة العمل لأغراض حربية، وحسب بعض التقديرات يصل عدد هؤلاء إلى أكثر من360 ألف احتياط جميعهم متعطلون، ومع ذلك تدفع لهم رواتب وأجور، وهذا ما يزيد في تكاليف الإنتاج ويخفض الفوائض الاقتصادية اللازمة لإنجاز عمليات التوسع والتجديد في الاقتصاد.
أما ثالثاً فهو زيادة الهجرة: يؤدي انتشار الخوف والهلع الذي تسببه الحرب بين المستوطنين إلى هجرة داخلية وخارجية، وإذا كانت الأخيرة تتمثل بضياع فرصة تنموية تذهب مع المهاجرين للخارج ولاسيما في حالة هجرة الكوادر المتعلمة المؤهلة والمدربة، فإن الهجرة الداخلية ترتب على الجهات ذات العلاقة تأمين أماكن للإقامة مع السلع اللازمة لتلبية احتياجات المستوطنين المهاجرين، ولكن من دون إيجاد حل لمشاكلهم، حيث يبقون خارج النشاط الاقتصادي وفي وضع مضطرب وغير مستقر.
ورابعاً، توقف النشاط السياحي: إذ أدت وتؤدي الحرب إلى غياب الأمن، وبالتالي التأثير سلباً على عدد السائحين وعلى عوائد القطاع السياحي وحرمان الاقتصاد من موارد قطاع أساسي يعتمد عليه في تكوين الناتج، والشيء ذاته ينطبق على قطاع السكن ولكن باتجاه آخر، بمعنى دفع تكاليف لإعادة بناء ما تخربه الحرب. وفي هذا المجال تشير بعض التقديرات إلى أن العمليات الحربية من جانب حزب الله فقط قد أدت إلى إحداث أضرار بحوالى 550 بناء حتى الأول من شباط الجاري.
يضاف إلى ما سبق تراجع الناتج: نتيجة لتعثر النشاطات الاقتصادية تتراجع معدلات النمو الاقتصادي ويتوقع أن ينكمش النشاط الاقتصادي في الربع الرابع من هذا العام بمعدل سنوي يصل إلى 15%، وتتراجع الصادرات ويزداد الاعتماد على العالم الخارجي في تأمين متطلبات الحرب والسكان ومن ثم يزداد العجز في الميزان التجاري.
وكذلك دفع تكاليف دائمة للمصابين: بالإضافة إلى عدد القتلى نتيجة الأعمال الحربية، هناك أعداد متزايدة في عدد المصابين الذين حولت الإصابة نسبة منهم إلى إعاقة دائمة تحتاج إلى عناية خاصة ونفقات دائمة تشكل نزيفاً مستمراً لدخول الأسر الاستيطانية المُعيلة، وللموازنة العامة التي ستزيد النفقات المخصصة لهذا الجانب، في الوقت الذي يتراجع فيه نمو الناتج.
وهناك سابعاً، زيادة أسعار الطاقة وتكاليف نقل المستوردات: أدت الحرب إلى توقف إنتاج الغاز في أكثر من موقع وتراجع معدل إنتاجه من 4% الى 1%، ومن تداعياتها دخول اليمن لمساندة الفلسطينيين، وضمن هذا الإطار أدت الإجراءات التي اتخذها اليمن ضد البواخر الناقلة للسلع والمواد المختلفة للكيان الصهيوني بما فيها النفط إلى:
– تعطيل العمل في المرافئ الإسرائيلية، بسبب إغلاق أكبر شركات شحن الحاويات، الأمر الذي تسبب بضربة كبيرة للاقتصاد الإسرائيلي باعتباره يعتمد بشكل كبير على الملاحة البحرية في تأمين الطاقة وغيرها من السلع الأخرى، حيث إن أكثر من 95% من واردات الكيان الإسرائيلي تتم عن طريق البحر، 40% منها عبر البحر الأحمر وقناة السويس.
– زيادة في تكاليف النقل وخاصة في حال التفتيش عن الخيار البري لأن هذا يعني زيادة في المسافة التي تحتاجها البواخر حتى وصولها إلى الكيان إلى حوالي 13 ألف كيلو متر وهذه تستغرق أسبوعين إضافيين.
– ارتفاع بدرجة المخاطرة التي أدت إلى ارتفاع في تكاليف التأمين على البواخر إلى أكثر من 250%، ما سيؤدي بدوره إلى ارتفاع التكاليف التي يتحملها الاقتصاد والمستهلك الإسرائيلي.
وثامناً، هناك خسارة في قوة العمل الفلسطينية: أي اليد العاملة الفلسطينية التي كانت تعمل في نشاطات محددة وبأجور منخفضة من الصعب إيجاد بديل عنها.
وأخيراً تاسعاً، تأتي خسارة في الهوية الاقتصادية: تترك إطالة مدة الحرب آثاراً سلبية على تأهيل اليد العاملة تحد من قدرتها على متابعة الجديد وعلى إمكانية الاستمرار بتزويد السوق بالسلع التكنولوجية التي تحتاجها الصناعات التي تعتمد على التكنولوجيا عالية التطور بعدها لا تتحمل التأخير في تلبية الطلب.
فالهوية التكنولوجية العالية التي أضحى الاقتصاد الإسرائيلي يعتمد عليها، خصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، حيث تدفقت على الكيان رؤوس أموال بمقادير كبيرة وخبرات فنية من الباحثين والعلماء من أصول روسية مكنته من تكوين اقتصاد بتقنية عالية أضحت واحدة من سماته وجعلت منه اقتصاداً مزوداً لاقتصاديات دول عديدة بالتكنولوجيا عالية التطور التي أصبحت حاجة ملحة في التوجه الاقتصادي العالمي الحديث استفاد منه الكيان في تقوية علاقاته الاقتصادية والسياسية مع دول كانت صديقة للعرب (الهند مثالاً)، ومن شأن التأخر الذي سببته الحرب في تلبية طلب الدول والشركات عن تأمين حاجتها خلال فترة زمنية محددة أن تبدأ بالتفتيش عن تأمينها من دول أخرى، والنتيجة النهائية ضياع للهوية وعجز، بل غياب القدرة على البقاء في سوق هذا النوع من السلع وخسارة الدول التي كان تشكل مجالاً للتعاون والتبادل مع الكيان.
وهكذا فإن للحرب على غزة آثاراً اقتصادية متعددة ليس بمقدور الاقتصاد الإسرائيلي تحملها ولاسيما مع إطالة أمد الحرب. إنها تؤدي إضافة لما تقدم إلى إغلاق وهجرة الشركات التي تعمل داخل الكيان وتحد من تدفق الاستثمار الأجنبي.
نقول ذلك ونحن ندرك أهمية دور المساعدات الأمريكية والأوروبية في استمرارية الاحتلال وتقوية اقتصاده، ولم يخفِ القادة السياسيون في تلك الدول تعاطفهم مع الكيان وتقديم كل أنواع الدعم والمساندة له، لكننا لا نستطيع بنفس الوقت تجاهل إمكانية التغير في المزاج الشعبي وأهمية التعاطف الذي بدأ بالاتساع والانتشار لمصلحة القضية الفلسطينية، والمواطن الأمريكي والأوروبي الذي كان مغيباً وجاهلاً في فهم حقيقة ما يجري ويتم من أحداث في المنطقة أدت وتؤدي ثورة المعرفة والاتصالات ووسائل التواصل الاجتماعي التي كشفت حقيقة العدو الإجرامية وممارساته العنصرية ضد الفلسطينيين، دوراً في تطوير فهمه وتوسيع اهتماماته، وهذا ما يجعلنا نتفاءل بالمستقبل لناحية تصويب الفهم الخاطئ وتصحيح الصورة المشوهة التي أراد العدو الإسرائيلي رسمها عن المقاومة بوصف نضالها لنيل حرتها واستقلالها على أنه عمل إرهابي، ناسياً أو متناسياً أن ما تم في السابع من تشرين الأول الماضي يأتي في سياق زمني يبدأ بتاريخ الاحتلال، حيث من ذلك التاريخ وحتى الآن يمارس المحتل أقسى أنواع التعذيب والتنكيل والحصار والتجويع والعنصرية والإرهاب ضد الفلسطينيين بصبغته الداعشية اليهودية التي أضحت سمة ملازمة للكيان الغاصب تم التعبير عنها بأشكال وأساليب مختلفة آخرها اغتيال مجموعة من الشباب الفلسطينيين بعد أسرهم وتركهم في العراء عراة معصوبي الأعين ومكتوفي الايدي.
وبسبب تكرار ما يشابه هذه الحالات مع الأسرى ومع الفلسطينيين عامة، وانسداد سبل العيش والحياة الكريمة أتت عملية طوفان الأقصى وبتأييد شعبي لافت في تأييد ودعم مقاومته الباسلة التي أحدثت زلزالاً كبيراً وهائلاً في الكيان الغاصب، وفي العالم ووضعت القضية الفلسطينية في مقدمة اهتماماته، وجعلت التفكير يتجه بشكل أفضل لناحية التفتيش عن حل يستجيب لمطالب شعب من حقه أن يعيش في دولة حرة ومستقلة، وهو الحل الذي تطالب به المقاومة الفلسطينية، ومعها قوى المقاومة وأحرار العالم، والذي ما زال يصطدم بالتعنت الإسرائيلي والانحياز الأمريكي الأوروبي، إلا أنه وفي كل الأحوال فإن عملية طوفان الأقصى جعلت ما بعد السابع من تشرين الأول ليس كما قبله.. وإن غداً لناظره قريب.