فيلم رحلة يوسف في سينما الكندي بطرطوس.. محاكاة حقيقية للمأساة السورية

طرطوس- ثناء عليان:
رحلة يوسف فيلم مستمد من وقائع الحرب الدامية التي خاضتها سورية مع الإرهاب خلال السنوات المنصرمة، ولا تزال آثارها تُرخي بظلال قاتمة على الواقع المعيشي والاقتصادي للسوريين.

الإرهاب وطغيانه
يعكس الفيلم مأسوية الدمار في البنى التحتية وفي منظومة القيم والأخلاق العامة التي تأثرت إلى حدٍّ كبير وملموس بمجريات الأحداث الدامية، وأبرز الآثار المدمرة، هو اليأس الذي ألقى بظلاله على المواطن السوري، ودفعَ بالكثير من الناس إلى الهجرة من البلاد والعيش في ظروف لا تقل قساوة عن الحياة في ظلال الإرهاب وطغيانه وسيطرة أزلامه على حياة السكان المدنيين الأبرياء، حيث فرضَ الإرهاب قوانينه الجائرة التعسفية، وتحكَّم في مصائر الناس من دون رادع من ضمير أو أخلاق، ومن دون فهم للطبيعة السمحة للدين الإسلامي، والعيش تحت ظلال قيم الرحمة والتسامح والعفو وسواها مما يحفظ ماء وجه البشرية من المذلة والظلم.
جسَّد البطولة الفنان السوري القدير أيمن زيدان، إضافة إلى نخبة من الممثلين من فئات عمرية مختلفة جمعت الكهولة إلى الطفولة إلى اليفاعة، ليؤدي فريق العمل الرسالة الإنسانية والوطنية بشكل جيد ومشكور.

قسوة المتطرفين
(يوسف) هو الفنان أيمن زيدان الذي يتمسك بسورية ويتشبث بالحياة فيها رغم قسوة المتطرفين وأعوانهم، وهذا يبدو واضحاً من المشهد الثاني في الفيلم في حواريَّة قصيرة يُجريها يوسف مع صديق العمر والجار الودود… وكلاهما أرملان وحيدان، يعانيان الفقر وقلة ذات اليد، لا هدف يوسف إلّا حفيده المراهق (زياد) الذي توفِّى والده في حادث أليم وتركه في عهدة جدِّه، ولأجل هذا الحفيد الغالي يضطر الجد إلى الهرب من البلاد واللجوء إلى العيش في أحد مخيمات اللاجئين في بلد مجاور، أما السبب المباشر للهجرة فهو الصبيَّة (هاجر) التي يحبها زياد، والتي يطالب أبو وليد ــــ أحد أزلام عصابات الإرهاب ــــ بتسليمها إليه ليتزوج منها.

فظائع ومآسٍ
بالانتقال إلى حياة المخيمات تتكشف لنا فظائع ومآسٍ لا تقل حدة وقسوة عما يقوم به الإرهابيون في الوطن الأم، فهنا امتدادٌ لنوع آخر من أنواع الاستغلال والاستعباد واضطهاد البشر… فلا قانون يحكم حياة مخيمات اللاجئين، والقوي يأكل الضعيف بأبشع صورة، لكنَّ الجد يوسف ـــــ الرجل قويّ الشكيمة الذي لا يعرف الركوع واليأس ـــــ يقود عائلته إلى برّ الأمان ويواجه بصدر عارٍ وبكفّ أعزل كل التحديات التي تتعرض لها عائلته المكوَّنة من زياد وحبيبته هاجر وخالتها.

“بلطجية” المخيمات
كما يكشف لنا الفيلم قسوة تحصيل لقمة العيش في مجتمع الهباء والعراء والتشتت، حيث يضطر الجدّ إلى العمل عتَّالاً لمواد البناء في المباني التي هي قيد الإنشاء رغم كبر سنه، ويعمل المراهقان الحبيبان زياد وهاجر في البحث بين أكوام القمامة عن شيء صالح للبيع، يشاركهما في ذلك بعض أطفال الحي، ويجد زياد في المزابل والقمامة ذات يوم كرة قدم مهترئة، فتتفتَّح موهبته في كرة القدم ويُثير اهتمام أهل المخيَّم وأفراد طواقم الأمم المتحدة، ويتلقَّى دعوة جديَّة للسفر إلى بلاد الغرب ونيل فرصة كريمة وحقيقية لتحسين أدائه الرياضي وضمان مستقبله، وهنا تقع الطامة الكبرى، إذ يتألم الجدّ الذي لا يُطيق فراق حفيده الوحيد ويقف ضد هذا القرار، ولكن في النهاية يوافق… خاصة أنَّ الحياة في المخيَّم تزداد قسوة في ظل وجود (بلطجية) المخيَّمات وتسلُّل أعوان الإرهابيين إلى المخيَّم لاستغلال أوضاع أهله بأبشع الطرق…

مهارة بالإخراج
وتبقى النهاية التي لن نُفصح عنها؛ تاركين للمشاهد فرصة متابعة شائقة للفيلم الذي بدا متفوقاً في الصناعة السينمائية وماهراً إخراجياً، فالكاميرا تُحاصر الممثل من كل الجوانب ومن أضيق الزوايا وأفسح المسافات، فمنذ المشهد الأول نرى رحيل يوسف عبر الهضاب الثلجية وهو يجر عربة مربوطة إلى حمار ويهرِّب شخصين خارج البلاد، وتنجح اللقطة في بثّ إحساس الخواء والتشاؤم واليأس والخيبة والحزن في نفوس المشاهدين حين ترصد الكاميرا هذا المشهد المُوغل في المأسوية من ارتفاع شاهق جداً، ومن مسافة بعيدة جداً، لتقترب مُبرزة ملامح الجدّ يوسف وهو يعاني مشقَّات جرّ العربة والسفر مشياً وترحيل أبناء الوطن عبر المعابر الحدودية غير الشرعية..

مواهب شابة
فريق الممثلين ضمَّ نُخباً رائعة، منهم الفنان القدير شادي زيدان في دور شيخ المخيَّم، والفنان الذي لعبَ دور الحلَّاق، وسواهما ممَّا يُشاد حقاً بجهودهم التمثيلية، وتُرفع لهم القبعات تثميناً لجهودهم الفنية الواضحة.
الفيلم ككلّ يدخل إلى أعماق المشاهد بلا استئذان، والموسيقا التصويرية جاءت رائعة ومدروسة، وكشفَ الفيلم عن مواهب بعض الوجوه الشابة الجديدة ووضعَها مباشرة في مواجهة الصناعة الفنية للسينما.

يشار إلى أنه لا تزال صالات سينما الكندي في طرطوس تعرضُ أسبوعياً وبشكل دوري فيلم رحلة يوسف. كل التحيَّة لفنَّانينا السوريين ولمحبَّتهم لبلدهم، وعلى رأسهم الفنان القدير أيمن زيدان، والمخرج جود سعيد، وفريق عملهما الرائع.
يذكر أن الفيلم من إنتاج المؤسسة العامة للسينما وكان حاز على الجائزة الذهبية بمهرجان “تارانتو” السينمائي الدولي في إيطاليا في نسخته الثامنة، كما حاز على جائزة السيناريو في مهرجان “كازابلانكا” للفيلم العربي.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار