«نابليون» ريدلي سكوت.. دراما باذخة عن الأنا الهشة لقائد عسكري وغد
دمشق- بديع منير صنيج:
أن يجمع فيلم بين السيناريست ديفيد سكاربا كاتب فيلم “كل المال في العالم” 2017 والمخرج ريدلي سكوت والممثل خواكين فينيكس الحائز على جائزة الأوسكار عن دوره في فيلم الجوكر، فهذا بحد ذاته يطرح الكثير من الآمال السينمائية عن فيلم “نابليون” ولاسيما أنه يحكي عن شخصية درامية إشكالية حظيت فيما بعد بعقدة نفسية تحمل الاسم نفسه.
لم يتمركز الشريط الذي بدأ عرضه بتاريخ 23 نوفمبر، حول هذه العقدة التي تصف السلوك الاجتماعي المفرط بالعدوانية والاستبدادية للأشخاص قصيري القامة، لكنه في الوقت ذاته استطاع التأكيد عليها ضمن أفعال شخصية نابليون منذ صعوده إلى السلطة وحتى أيامه الأخيرة في المنفى.
تبدأ قصة الفيلم عام 1793 مع الثورة الفرنسية، بعد أن تم قطع رأس ماري أنطوانيت (كاثرين ووكر) بالمقصلة بعدما كان متوَّجاً بالذهب والعنجهية. حينها يخطو نابليون لملء هذا الفراغ الملكي، وهو قائد مدفعية كورسيكي بعمر الرابعة والعشرين، لكنه طموح وشديد الذكاء والحنكة، وفي كلا الساحتين العسكرية والسياسية بارع بانتهاز الفرص، لذا نرى كيف استغل فتوحات جيشه ليجلس على مقعد العرش كإمبراطور.
المخرج سكوت بقدر ما ركَّز على الجانب التاريخي في مسيرة نابليون، كان يعطي الجانب العاطفي حقّه وأكثر، مُبرزاً علاقته الرومانسية مع الإمبراطورة جوزيفين دو بوهارنيس (فانيسا كيربي)، الأرملة الجميلة التي تزوجها في النهاية.
هنا يحيلنا مخرج فيلم المصارع إلى معركة من نوع آخر، تتعلق بالغرائز والرغبات، لتتحول المغازلات والاستمالات إلى صراع قوي يخوضه نابليون في سبيل الوصول إلى السلطة، وتتمظهر من خلاله حالات الثقة والحاجة للآخر ضمن إطار فيه لمسة كوميدية في بعض الأحيان.
ولا يكتفِ سكوت ومن خلفه السيناريست سكاربا بتصوير المفاصل التاريخية المعروفة لحياة نابليون ومعاركه، والتي تمتد لعدة عقود، لكنهما يكشفان عن الكثير من الأحداث من خلال رسائل نابليون إلى جوزفين، وكان خيار التعليق الصوتي موفقاً، إذ أعطى شعوراً يربط جميع خيارات نابليون بمشاعر الحماسة والغيرة، ناقلاً معاركه العاطفية إلى أرض المعركة السياسية.
هنا تعود عقدة نابليون للظهور، ليس من خلال المبالغة بالتركيز على قصر قامته، وإنما عبر التأكيد على معاناته من التقزُّم العاطفي، وانعدام ثقته بنفسه، وطموحاته الكبيرة، والتي أراق في سبيلها الكثير من الدماء، محققاً فوضى دموية هائلة، نجح سكوت في إبراز شناعتها، من خلال الأشلاء البشرية، والخيول المبقورة، وما رافق ذلك من دمار روحي للجنود خلال المعارك.
كاميرا بانورامية مذهلة، لم تقارب جماليات الطبيعة في فيلم المصارع، بل التقطت بذكاء مصيبة الجليد المتشقق في معركة أوسترليتز، والمناظر الطبيعية الشاسعة في واترلو، وكيف أن ذاك القائد العسكري كان ينظر إلى الرجال تحت إمرته باعتبارهم مجرد وقود لآلة الحرب، ليثبت سكوت من خلال رؤيته قدرته الفائقة على إثارة الإعجاب وتسخير التقنيات الحديثة والمبالغ الطائلة من أجل تصوير مشاهد تقارب إلى حدٍّ كبير الواقعية.
كما أن هذا المخرج الهوليوودي استطاع بناء دراما شاهقة كاملة حول الأنا الهشة لمثل هذا القائد ، مع إنه اضطر في بعض الأحيان لتبسيط سيرته الذاتية، وتكثيف بعض مفاصلها، مثل ذاك المشهد المكون من مقاطع متتالية واختصر من خلاله ما يقارب الثلاثين عاماً من حياة نابليون، أو استخدام راوٍ بضمير المتكلم نسمع من خلاله صوت الإمبراطور لإضافة معلومات يتعذر تصويرها بسبب تشتت أمكنة الحروب وامتدادها في الزمن.
لكنه في الوقت ذاته حقق في شريطه الممتد على 158 دقيقة انتقاداً ساخراً من العائلات المالكة، عارضاً بمتعة خاصة للإذلال الرومانسي والمهني الذي تعرض له أحد أشهر الشخصيات اللاإنسانية في أوروبا، كما يقول في أحد لقاءاته.
ومن ذلك مشهد المعركة التي تتم في حقول الثلج الروسية حيث هزم الإمبراطور الفرنسي بحجة أن حوافر خيله لم تكن تناسب المكان. هذه الشخصية الدرامية الغنية التي أعلنت في الفيلم أنها تقتفي خطا القيصر والاسكندر الأكبر تلميذ أرسطو، كانت بحاجة إلى ممثل من رتبة خواكين فينيكس لتجسيدها، الذي استطاع أن يوائم بين حركات الجسد وتداعيات النفس في صياغة نابليونه الخاص.
استجمع فينيكس كل مهاراته ومعرفته في فن الممثل للخروج بشخصية صارمة وكئيبة في أرض المعركة، بما يماثل شخصيته في فيلم المصارع، وفي الوقت نفسه، كان يقارب شخصية المهرج عندما يفر من الساسة أو ينظر بعمق في عيني مومياء فرعونية، أي أنه دغم كيمياءه الخاصة مع تلك الشخصية، وتماهى مع عُقَدِها وانكساراتها العاطفية، وصَلفها الزائد في ردود الفعل والطموح الكبير.
فانيسا كيربي هي الأخرى استطاعت تسخير أدواتها التمثيلية للوقوف أمام ممثل مبهر، وإجبار شخصيته التي يجسدها إلى الانقياد نحوها، بحيث تتوازن قوى الصراع العاطفي، ولاسيما أن نابليون غزا العالم من أجل الفوز بحب جوزيفين، وعندما لم ينجح، قام بغزوها من أجل تدميرها، وخلال ذلك دمر نابليون نفسه.
يذكر أنه يشارك في بطولة الفيلم كل من طاهر رحيم، يوسف كيركور، لويس نيكولا دافوت، لوديفين سانيي، إيان ماكنيس، ماثيو نيدهام، إدوارد فيليبونات، بين مايلز،… ديكور: آرثر ماكس، تصميم الأزياء، جانتي ياتيس، موسيقا: مارتين فيبس، إنتاج استوديوهات آبل وسكوت فري برودكشنز.