«ناتالي حنظل»… تنثرُ حنيناً أندلسيّاً على قصائدها!

تشرين- جواد ديوب:
في كتاب «شاعرةٌ في الأندلس» لـِ”ناتالي حنظل”، نحن أمام مزيج بنكهات متعددة، فهو كتابٌ شعريّ، لكنه يجدِلُ معه ضمن صفحاته خيوطَ مذكراتٍ عاشتها الشاعرة (الأمريكية من أصول فلسطينية) هناك في مدن الأندلس، حيث قامت بمغامرة سفَرٍ معكوس أو رحلةٍ تجمعُ بين السير الواقعي وسير الحكايا الشائقة، وهي تتّبع خُطاً موازية للشاعر الإسباني غارسيا لوركا الذي سافر من إسبانيا، وعاش في مدينة «مانهاتن» (مكان إقامتها هي نفسها) من دون أن تنسى جذورها المتوسطية أو العربية الفلسطينية.
تقول في استهلالها:
«لطالما كانت الأندلس تمثّل المكان الذي تتقاطع فيه، وتتنافس قوىً دينية وإثنية وعرقية تشكّل مرآةً للماضي المخيف والجميل معاً (وكتابي هذا) يعدُّ تأمّلاً في الماضي والحاضر، إنه يتناول شعرياً تلك المنطقة التي تبدو كأنها تحمل نبض كوكبنا وتحتشد فيها معظم حكاياتنا».
وحين تغامرُ الشاعرة برحلتها المعكوسة كرجع الصدى لما عاشه لوركا في رحلته من إسبانيا إلى مانهاتن التي كتب فيها ديوانه «شاعرٌ في نيويورك»، فإنها بذلك تضخُّ حنيناً في عروق قصائدها، وترسم بغنائيّةٍ واضحة عشقَها للمدن الإسبانية باعتبارها مجازاً شعريّاً موازياً للوطن الأمّ ولفكرتها عن هويتها متعدّدة الجذور والثقافات واللغات.
وإن كان ديوان لوركا يتحدّث في رأيها «عن الظلم والحب القاتم ومفهوم الآخر» فهي في ديوانها الحالي تقول من جملة ما تقوله «مأساةَ الآخر في بحثه عن إمكانية التعايش الإنساني محمولاً على المعنى الأعمق في الروح البشرية؛ أي على المحبة».
شِعرٌ ورويٌ!
فرادة ديوان «شاعرة في الأندلس» (الذي ترجمه الدكتور عابد إسماعيل وقدّم له في النسخة العربية الصادرة عن دار التكوين) تأتي من كونه مزيجاً من الشعر والرَّوي، إذ نجد مثلاً في قصائد أحد الفصول أبياتاً موجزة لشعراء عرب أندلسيين كما لو أنها زهور ياسمينٍ معلّقة على صدر قصائد الشاعرة، وتستهلُّ ناتالي قصيدتها المميزة «الحنظل وأسوار قرطبة» باقتباسٍ من (ابن حزم 994-1063):
«أتيتني وهلالُ الجوّ مطّلعٌ/ قبيل قرع النصارى للنواقيسِ/ ولاحَ في الأفق قوس الله مكتسياً/ من كلِّ لونٍ كأذنابِ الطواويسِ» ثم تقول:
«سأكون البئرَ حيث يلتقي الماءُ بالماء.
سأخترع لغاتي الخاصة، استعاراتي، شوارعي،
وذنوبي، جدراني الخاصة ومدني الخاصة (…)
الآن ولّى الثّقلُ الذي لا يطاق للحرارة في ذاكرتنا…
الصدى الذي حملناه قافلةً بعد قافلة…
عراةٌ نحن من دون رايةٍ أو موسيقا..
من دون حرسٍ أو حكّام…
من دون مغنّين أو شعراء..
من دون آلات العود والغيتار…
ولّى الآنَ… لكن ليس حائط قرطبة ولا قصائد المتصوّفة ولا اللغة الإسبانية وليس الأندلس برمّانها وبندقها وبرتقالها وتفاحها وقلبها… ورجفتُها على طول الغياب».
بعد ذلك تكتب فصلاً نثريّاً فيه شيءٌ من شروحاتٍ لأصول الكلمات الإسبانية المحبوكة ضمن نسيج قصائدها لتفتحَ مداركنا الحسيّة والعاطفية والعقلية على ما هو أبعد من الشعر؛ على سياقٍ تاريخيّ يصِلُ ماضيها/ماضينا بـحاضرها/حاضرنا، ثم تضيف إلى كل ما سبق سِحرَ الرّوي بنثرها الذي يكاد يكون أجمل من شعرها أو كما لو أنّه قنديلٌ يضيء لنا ما غَمُضَ على جدران قصائدها.
رويٌ وحكايةٌ لتفاصيل ذكرياتٍ «صنعتها» حنظل وهي تمشي وتمشي وتمشي في أزقّة وحارات مدن الأندلس: مَلَقة، غرناطة، قرطبة…إلخ مسجّلةً تفتّحَ الرغبات، والروائح، ومنمنمات الناس ذوي السحنات المتوسطية/الإسلامية، وذاك التمازج (هي تفضّل استخدام كلمة تعايش/كونفايفنسيا وتعنون بها إحدى القصائد) حيث عاش المسيحيون والمسلمون واليهود في تناغمٍ نسبيٍّ مغتنين بابتكار اختلافاتهم الفكرية والفنيّة.
تقول في «تعايش/قصيدتا غزل وقصيدتا حب» :
«أحياناً تضغط الموسيقا بألمها على المرايا/ لكي تستطيع آلاف النوافذ أن تجدَ قلباً/ على شرفة الياسمين البريّ نرى سماءً تمزّقت إرباً وننحني لنبقي الغيومَ الصغيرة في القلب». وتكتب أيضاً:
«ثمانمئة عامٍ من الحبّ، لا يمكن أن نكون غرباء الآن، نحن هنا لنسمح للآخر بأن يكون هنا».
جمالٌ مفاجئ!
وسوف نكتشف جمالاً يتفتّح مفاجِئاً ومُدهِشاً في قصيدتها «كتابُ طليطلة» جمالٌ يشعر القارئ معه كما لو أن ناتالي حنظل تقول حالنا اليوم:
«أنت لا تدرك أنني المحيط/ في كل مرّة تطلقُ عليّ النار تصير طلقتك جزيرةً صغيرة أرتاح في جنباتها (هذه كلماتٌ أهدتها الضحيّة لعدوّها)/
أهذا حجابُ أمّي أم سنونو يطير قربي؟!(هذه كلمات حفيدِ صانعِ سلام قبل ثوانٍ من فقدانه البصر والنطق).
قدّموا لنا الأغطية وسماءً من آلاف الوجوه ومحيطاً نسبح فيه، وبدلاً من أن نعود أدراجنا، ضِعنا في مياهه (هذه كلمات مهاجرٍ حياته جدّ قصيرة)/
متى ستعودين إلى لامانشا؟ (تلك كانت صلاةُ أبي اليوميّة)»!

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار