في مروَّيات الطرائف عن الحكواتي، وهنا لا يمكن فصلُه عن حكاياته، أن أحدَ مستمعيه أيقظه في الهزيع الأخير من الليل وطلب منه أن يخبره حالاً ماذا حلّ ببطله الذي تركه في خضمّ نزاعه مع العدو حتى حلول الليل القادم، موعدِ تحلّق المستمعين حوله وهو مالكُ الأسرار، والعالمُ بالمصائر!
في هذه الطرفة أطيافٌ من حقائقَ نفسية واجتماعية: أوّلُها الفضول كدافعٍ من دوافع المعرفة، ثم انعدامُ الصّبر أمام البحث عن النتائج، فدفعُ التريثِ واللياقة بعيداً عن السلوك الاجتماعيّ حين تستبدُّ الرغبة في كشف المجهول بأي ثمن!
يبدو أن الإبداع الإنساني لعب هذه اللعبة على مشاعر البشر بعد معرفة آلياتها المعتمدة على التشويق وقبلَ شيوع التلفزيون الذي استطاع “تقطيعَ” الحكايات الطويلة إلى حلقات، ظاهرُها ضرورةُ “هندسة الفنّ”، وعمقُها السيطرة على الجموع، كانت في عالم الأدب رواياتٌ متسلسلة في صحفٍ يومية أو مجلات أسبوعية، وهي ليست بتلك الصحف الرخيصة أو التي تعتمد التسلية لزيادة البيع والتوزيع، لأن الكثير من الروايات العالمية نُشرت في قرون ماضية بهذا الأسلوب، ومنها بعض روايات “ديستويفسكي” التي تم التعاقد فيها بين الكاتب ودار النشر أو رئيس التحرير، رغم أن الأسلوب نفسَه اعتُمد فيما بعد، خاصة في الغرب، لنشر روايات متسلسلة بلا مضمون ثقافي أو معرفيّ، مستخدماً أحياناً الصورَ الفوتوغرافية، ومتجاوزاً الفنّ البصري المعتمَد في تثقيف الأطفال عبر السيناريوهات المرسومة في “مجلاتهم”، وربما استمرّ هذا “الفنّ” لكنه صار شاحباً في عصر الصورة المتحركة، بل اقتحم التلفزيون عالم الرواية المكتوبة، يأخذها ويفكِّكها ويعيد تدويرَها، ويرسم شخصياتها، ملتزماً بخطوطها الأساسية وأحداثها! وليثبت إخلاصه للنصّ الروائي، أو براعته في “فنّه المستقلّ” الذي يمَنُّ به على الجمهور غير القارئ، وهو أوسع بما لا يقاس من جمهور القراءة، قدّم إغراءات سخية لبعض الروائيين كي يكتبوا “السيناريو” أو يشرفوا عليه، ومع ذلك ورغم تحوّل ما لا يحصى من روايات العالم إلى مسلسلات تلفزيونية، لم أعرف روائياً واحداً يشيد بمسلسلٍ أصلُه روايةٌ كتبها، لأن الرواية أياً كانت تُبنى بروح كاتبها وتُقرأ بخيال قارئها، وحين تُفَصّلُ وتُعالَج وتُقَصُّ وتُخاطُ بين عشرات الأيدي في “ورشات” الصناعة التلفزيونية، تزيل كل السحر الذي يشحن الرواية ويترك فيها خفايا ظليلة ولمعاتٍ لا تظهر إلا بمفاجآت المزاج الأدبي التأليفي، أو الذاتي لحظة العزلة مع الكتاب قرب مصباح قراءة!
معرفة الروايات الأدبية بالقراءة، هي غير معرفتها مصوّرة، متسلسلة، وقد اختلفتُ مع صديق مثقف في إحدى الندوات على احتساب مشاهَدات التلفزيون مؤشّراً على القيمة الثقافية المجتمعية! إنها مؤشرات على نوعٍ من المعرفة لا يمتُّ إلى الثقافة العميقة، الثرية، المحمودة، بصلةٍ!
![](http://tishreen.news.sy/wp-content/uploads/2022/05/4444-150x150.jpg)
نهلة سوسو
105 المشاركات