الصوفيّة.. ظاهرةٌ لها تفسيرُها التاريخيّ وتقديرها الفكريّ

تشرين- ثناء عليان:
في الحديث عن ظاهرة التصوف، تطرق الأديب علم عبد اللطيف خلال المحاضرة التي ألقاها تحت عنوان «التصوف.. مفهوماً وظاهرة» بدعوة من جمعية عاديات طرطوس في مركز الشعلة للأداء المتميز لبعض النقاط المتعلقة بالتسمية والمتصوفة كأشخاص أولاً، ثم كمنهج تفكير، وكظاهرة.
ولفت إلى أن كلمة تصوف تحيل إلى الذهن مباشرة مسألة لبس الصوف، لكن لا يشهد لهذه القرينة في تاريخ الصوفية قياس أو دليل، فليس كل من لبس الصوف هو متصوف، ولم يلبس كل المتصوفين الصوف أيضاً، وأشار إلى أن البعض ذكر أن كلمة تصوف مشتقة من الصفاء، لكن اشتقاق التصوف منه بعيد في مقتضى اللغة، ومنهم من قال هو من الصف، أي هم في الصف الأول بقلوبهم من حيث الحضور الإلهي، أيضاً هنا اللغة لا تستجيب لهذا كما نرى.
ويجمع الدارسون –حسب عبد اللطيف- على أن المتصوفين قسمان، الأول سلبي الموقف والاتجاه، انقطع عن الناس والحياة للتعبد، ولم يشارك برأي أو موقف فيما يتصل بالحياة عموماً، لا شعراً ولا نثراً، وبقي مبتعداً عن أمور السياسة، وحتى السجالات الفقهية التي كانت تدور بين الفقهاء وأصحاب الاتجاهات والمذاهب، ومنهم من أعلن موقفه المتمايز عن ثقافة عصره المعبر عنها بثقافة السلطة والفقهاء، وهؤلاء أيضا قسمان، الأول اكتفى بطريقة لغوية أقرب إلى الإيهام والتعمية، كـ (النفري) (وابن الفارض)، ومنهم من أعلن صراحة عن نظرية خاصة بطريقته، كـ (ابن عربي) و(الحلاج) و(السهروردي).
ولفت صاحب رواية (أحلام الزمن المتوسط) إلى أن ابن عربي والحلاج وعموم فلاسفة ومتصوفة المشرق العربي، سلموا بوحدة الوجود، وهذا يؤدي إلى مسألة دقيقة في الفهم والموقف والحياة، إذ إن مؤدى هذه النظرية أن جمع الأعداد مهما بلغت، يبقى واحداً، في حين نجد أن فلاسفة ومتصوفة الغرب، في الأندلس، من ابن رشد الى ابن باجة وابن الطفيل لا يسلمون بمبدأ وحدة الوجود، وينتهون لاعتبار أن جمع الأعداد هو حاصل تعددها، والفرق كبير بين الموقفين، من حيث الموقف من الحكام أولا، ومن الحياة ثانياً.
وبيّن عبد اللطيف أن الصوفيين اتهموا بالهرطقة، وأن تعاليمهم نجسة ومدنسة، من الأفلاطونية المحدثة والمانوية، إلى أوائل المتكلمين في المنطق، مثل (معبد الجهني وغيلان الدمشقي) في العصر الأموي اللذين بحثا مسألة القدر، وظهرت على يديهما نظريتا (القدرية) و(الجبرية)، وكذلك المعلمون الكبار كالحلاج والسهروردي اللذين انتهيا باضطهادهما وقتلهما، الأمر الذي ألجأ الصوفيين لحصر تعاليمهم في تلامذة موثوقين ضمن نطاق ضيق، ومن هنا يمكننا فهم اللغة الخاصة التي بدأ الصوفيون يتكلمون فيها، ويعدها البعض من متابعي هذا العصر، أنها شعر منثور، ومن الدارسين من يقول إن لغتهم تلك، هي أساس قصيدة النثر في التراث العربي، كأقوال النفري (المواقفات)، وابن عربي (الفتوح المكية)، وحتى الجاحظ في (البيان والتبيين)، ثم تابع كل من ابن خلدون الذي بحث في دلالات الألفاظ الوضعية لا مبناها فقط.
وبيّن صاحب رواية «قمر بحر» أن اللغة الصوفية هي ميدان تقية بدت مفروضة على الصوفيين، يهربون فيها من الإيضاح والتصريح، إلى المجاز والتلميح، حتى إن ظاهرة المجاذيب، قد تم ربطها لهذا السبب بالتصوف، فادعاء الجنون أو الإفلات من العقل قد يعفي من العقاب، لكن كل هذا لم يمنعهم من البقاء عند اعتقادهم والتصريح به، مؤكداً أن اللغة المجازية التي تحدث بها المتصوفة لم تكن خياراً، بل اضطراراً، وحافظوا على معارضتهم العقلية للنظام السائد لدى الحكام والفقهاء بطريقتهم.
ونوه صاحب رواية «السور والعتبات» بالباحث (أبو العلى عفيفي) الذي عد التصوف أروع صفحة تتجلى فيها روحانية الإسلام، والتفسير العميق للدين، وهي ثورة تتصل بتفكير معين في مرحلة معينة، لا صلة لها بما قبلها ولا بما بعدها، ثورة عدت الحياة زهداً وتنسكاً، وطرحاً لكل مغريات الحياة، ويرى الباحث عفيفي أن هذه الطريقة كادت تنقرض لولا متصوفي القرن السادس والسابع الهجري، إذ بتأثير فلاسفة الصوفية في تلك المرحلة، أصبح التصوف علماً وفلسفة، وحافظ على روحانية مستمدة من الشريعة أشبعتها بنور العقل.
وأشار عبد اللطيف إلى أن الموقف من الصوفية والمتصوفين، قد أداره في الآونة الأخيرة عقل منفتح وعلماني، ومدارس ألسنية، وساهم حتى الأنثروبولوجيون وعلماء التاريخ فيه، وتخلصت الصوفية من تهم كالتها لها السياسة في وقتها، فأصبحت ظاهرة لها تفسيرها التاريخي، وتقديرها التاريخي والفكري، وتمت إعادة الاعتبار لمتكلميها، خاصة من تعرض للقتل والاضطهاد منهم، وعدّوا أبطالاً، مثل معبد الجهني، وغيلان الدمشقي والحلاج والسهرورودي وغيرهم، ويتم فهمها كظاهرة بوسائل تاريخية حداثوية، أنتجها زمن له خاصيته الفكرية والسياسية، تماماً كما تمت إعادة الاعتبار لثوار اتهموا بالخيانة لثورتهم على الخلافة والسلطنة.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار
ناقش مذكرة تتضمن توجهات السياسة الاقتصادية للمرحلة المقبلة.. مجلس الوزراء يوافق على إحداث شعبة الانضباط المدرسي ضمن المعاهد الرياضية "ملزمة التعيين" وزارة الدفاع: قواتنا المسلحة تستهدف آليات وعربات للإرهابيين وتدمرها وتقضي على من فيها باتجاه ريف إدلب الجنوبي مشاركة سورية في البطولة العالمية للمناظرات المدرسية بصربيا القاضي مراد: إعادة الانتخابات في عدد من المراكز في درعا وحماة واللاذقية «لوجود مخالفات» غموض مشبوه يشحن الأميركيين بمزيد من الغضب والتشكيك والاتهامات.. هل بات ترامب أقرب إلى البيت الأبيض أم إن الأيام المقبلة سيكون لها قول آخر؟ حملة تموينية لضبط إنتاج الخبز في الحسكة.. المؤسسات المعنية في الحسكة تنتفض بوجه الأفران العامة والخاصة منحة جيولوجية ومسار تصاعدي.. بوادر لانتقال صناعة الأحجار الكريمة من شرق آسيا إلى دول الخليج «الصحة» تطلق الأحد القادم حملة متابعة الأطفال المتسرّبين وتعزيز اللقاح الروتيني دمّر الأجور تماماً.. التضخم لص صامت يسلب عيش حياة كريمة لأولئك الذين لم تواكب رواتبهم هذه الارتفاعات إرساء القواعد لنظام اقتصادي يهدف إلى تحقيق الحرية الاقتصادية.. أكاديمي يشجع على العودة نحو «اقتصاد السوق الاجتماعي» لتحقيق التوازن بين البعد الاجتماعي والاقتصادي