توثيق الفلكلور والبحث فيه كجزء أساسي من التراث اللامادي، يشكلان تنظيفاً لتربة جذور الهوية الحضارية التي تميز المجتمعات الأصيلة الضاربة في الزمان والإنسان. والتجربة الرحبانية لم تكن نهلاً من معين الفلكلور فقط، بل هي إبداع عبقري لفلكلور عصري تمتد جذوره في التراث، فما الجديد في هذه التجربة الإبداعية خاصة من حيث توثيقها و حفظ مكوناتها بكامل عناصرها ومبدعيها؟؟!!
تميزت فيروز بصوتها وأدائها، وسحر الكون بهذا الشدو العذب الإلهي، ولكن ما ترسخ أيضاً فينا تلك (الشخصية الفنية) التي اتسمت بها، وظللت حاضرة لها في كل مسرحية أو فيلم أو “اسكتش” أو حفل. شخصية الفتاة البسيطة الخجولة المتواضعة. فهل هي شخصيتها الحقيقية، أم إنها شخصية فنية رسمها لها فنان مبدع وحافظ لها على هويتها في كل الأعمال التي قدمتها؟؟
في مئوية عاصي الرحباني التي مرت في الأيام الماضية نشرت أستاذة جامعية متميزة تحقيقاً عن (الضلع الثالث) للأخوين رحباني وهو شريكهما المسكوت عنه ومنظم أعمالهما ومدير فرقتهما ومخرج أعمالهما؛ المخرج الفلسطيني صبري الشريف. وعبر حوار مطول مع نجله الذي تحدث عن سيرة العطاء الفني لوالده مع العباقرة الرحابنة وصوتهم فيروز. وجاء في هذا التحقيق ضمن الكثير مما تم الكشف عنه؛ أن المخرج صبري الشريف هو من رسم لفيروز هذه الشخصية الفنية، وهو من تابع و دقق لتظل هذه الصورة منضبطة وموزونة ضمن تناسق هارموني الأعمال الرحبانية العبقرية كلها.
وكي نضع الرجل في مكانه ومكانته رغم أن المجال هنا لا يتسع. فإن صبري الشريف كان مسؤولاً في إذاعة الشرق الأدنى التي كلفته بجمع الفلكلور في المنطقة. وبعدما قابل عاصي الرحباني واشتعلت بينهما شرارة العمل الإبداعي الطويل. خصص صبري 80% من ميزانية الفلكلور لأعمال الرحابنة. وبعدما انسحب من الإذاعة أسس صبري مع الأخوين رحباني شركة إنتاج كانوا ثلاثتهم شركاء متساوين فيها. وكان صبري الشريف المدير والمحاسب ومدير العلاقات العامة والأهم أنه كان المخرج وصاحب الكثير من الأفكار. ويبدو أنه كان جزءاً رئيساً من عبقرية الرحابنة، ورسمه صورة شخصية فيروز الفنية جزء من دوره وإسهامه وعبقريته.
عبقرية صبري الشريف في رسم صورة فيروز الفنية أنه أخذ تفاصيلها من شخصيتها الأصلية، ودرس ما يمكن تطويره من هذه التفاصيل وطورها وما يمكن المحافظة عليه كما هو فحافظ عليه. وبالنتيجة خلق لفيروز صورة فنية ترسخت بسلاسة في أذهاننا، لأنها كفيروز مخلوقة ببساطة، وهل العبقرية غير البساطة السلسة.
في مئوية العظيم العبقري عاصي الرحباني اكتشفنا عبقرية مكملة له في أعماله هو صبري الشريف، وما قامت به هذه الأستاذة الجامعية في تحقيقها الذي كشفت فيه المسكوت عنه حول صبري الشريف ليس أكثر من توثيق لعبقرية بحثت وطورت الفلكلور. وأبدعت فولكلوراً مذهلاً اسمه الفن الرحباني الخالد…