اليوم.. السوريون يحيون عيد «أكرم من في الدنيا».. روح الوطن الخالدة.. شهداء سورية : سلامٌ .. سلامْ

تشرين – مها سلطان:
كان لهم يوم ، ثم.. كل الأيام صارت لهم، وما زالت.. حتى يقضي الله لسورية سلاماً مُستحقاً بأرواح صعدت إلى السماء طاهرة نقية فوّاحة بالتضحية، تحمل الوطن نَفَسَاً أخيراً شهقت به، ليحيا أبداً.. ولنحيا، نُصبح ونُمسي على وطن.. شامخ حر.
كان لهم في 6 أيار عيد وتاريخ وحكايا بطولة ومجد.. واليوم كل الأعياد لهم.. كل التواريخ تخصهم.. وكل الحكايا عنهم، شهادات شرف مُعلّقة على جدران السوريين.. شهادات لأجمل الآباء، أجمل الأمهات، أجمل الأبناء، أجمل الأخوة والأخوات.. فسلام على أجمل الأوطان، على من انتظر أبناءه كل صباح ليعودوا في كفن «شهداء.. فبكى دمعتين ووردة.. ولم ينزوِ في ثياب الحداد»..«لم تنتهِ الحرب.. لكننا صامدون هنا» وسنبقى، وفي كل صباح أرواح تنتظر، فإما نصر وإما شهادة.

كثيرون راهنوا أو اعتقدوا أن 6 أيار الذي اختارته سورية يوماً لتخليد قاماتها الوطنية الذين أراق دماءهم السفّاح العثماني.. أن هذا اليوم سيغيب ويُنسى، فإذا كان للسوريين في ذلك اليوم 7 من الشهداء فكيف سيتذكرونه ولهم منذ 13 عاماً – وفي كل يوم – عشرات الشهداء، وفي جلّ أيام الحرب كان لهم مئات الشهداء.
لكن السوريين وفي كل عام يُثبتون العكس.. في كل 6 أيار من كل عام يُحيي السوريون عيد الشهداء، أولاً: ذكرى للسابقين السبّاقين تكريماً وتخليداً، ولأن خير الشعوب من يحفظ ويصون الذين ضحوا بأرواحهم في سبيل الأوطان ليبقوا أحياء أبداً، ولتبقى عهودهم أمانات في الأعناق.. وثانياً: استنهاضاً للهمم وتقوية للعزائم، ولأن الأوطان لا تبنى إلّا بالتضحيات أياً تكن مواقعها وأبطالها، وأكثرها سمواً وعلوّاً التضحية بالأرواح، ومَنْ مثل السوريين قدم التضحيات، ولم يبخل، ولم ينتظر.. وثالثاً: رسالة للعدو، القريب والبعيد ليبقى متيقناً أن وطناً أعمدته شهداء، هو وطن لا يُهزم مهما أمعن الأعداء في التآمر وسفك الدماء.
مئة وسبعة أعوام مرت على أول ذكرى عيدٍ للشهداء، وكان يوم الـ6 من أيار عيداً وطنياً يشمخ به السوريون على امتداد الوطن.. و13 سنة منذ بدء  الحرب الإرهابية على سورية، وما زال يوم الـ6 من أيار يوماً وطنياً لا يغيب ولا يُنسى، وما زال السوريون يشمخون به على امتداد الوطن.
اليوم، كل سوري معني بـ 6 أيار تخليداً وتجديداً.. لا يخلو بيت سوري من شهيد أو اثنين أو ثلاثة، وبعض البيوت قدمت جميع أولادها دفعة واحدة للشهادة، للوطن.. نعم هناك غصّة وحرقة، وهناك وجع يعلو أنينه ويملأ عباب السماء.. لا يخفي السوريون وجعهم، ولا يكابرون على الغصة والحرقة.. يصبرون على البلوى، وهم في الشهادة سواء، وفي الوطن المكلوم واحد.. تفنى الأبدان لتبقى الأوطان، وتبقى الأوطان ليبقى الأبناء، ليكملوا المسيرة في الحياة والبناء، وفي التضحية والشهادة متى حانت ساعتها.. ولن يكون السوريون إلّا كذلك شعباً وجيشاً وقائداً.
أبواب السماء المفتوحة
في الساعة الثالثة من صباح يوم الـ6 من أيار 1916 أنيرت أضواء ساحة المرجة – وسط العاصمة دمشق – لتُضيء وجوه سبعة من خيرة أبناء الأمة، وليس سورية فقط.. سبعٌ من القامات الشامخة ثقافة وعلماً ووطنية وعروبة.. عبقت الأجواء بطيب الشهادة المنتظرة واستعدت أبواب السماء لاستقبال «أكرم من في الدنيا وأنبل بني البشر».. وعلى شرفة بناية أحمد عزت العابد وقف السفاح جمال باشا ليراقب تنفيذ أوامره بإعدام القامات العربية السورية السبع: شفيق العظم، عبد الوهاب المليحي، عمر بن عبد القادر الجزائري، شكري العسلي، رفيق سلوم، الشيخ عبد الحميد الزهراوي، ورشدي الشمعة.
«وفي التوقت ذاته كانت ساحة البرج في وسط العاصمة اللبنانية بيروت تشهد تنفيذ أوامر السفاح نفسه بإعدام كوكبة ثانية من الأعلام اللبنانيين والعرب هم: بترو باولي – جرجي الحداد – سعيد بشارة عقل –  عمر حمد – عبد الغني العريسي – الأمير عارف الشهابي –  أحمد طبارة – توفيق أحمد البساط – سيف الدين الخطيب – علي النشاشيبي – العقيد أمين بن لطفي الحافظ – محمد جلال الدين البخاري – محمد الشنطي – سليم الحسني… لذلك فإن سورية ولبنان يحتفلان بعيد الشهداء في اليوم نفسه».
نُفذت الأوامر.. اعتقد العثماني السفاح أن جذوة الحرية والكرامة ستخمد، لكن السوريين نصّبوا ذلك اليوم كأحد أقدس أيامهم، وحملوا أرواح شهدائهم السبعة منارات تُضيء طريق النضال حتى طرد المحتل العثماني الذي سعى بكل إمكاناته على مدى أكثر من 400 عام لإغراق سورية وبقية الدول العربية في الجهل والتخلف، وهو صاحب امتياز «الخوازيق» التي لم يشهد التاريخ – حتى في أحلك مراحله ظلماً وجوراً وعبودية – أشنع وأكثر إجراماً منها كوسيلة للتعذيب اللامتناهي قبل الموت الحتمي.. كل ذلك مقابل نهب ثروات وخيرات البلاد حتى لم يترك للعباد ما يقتاتون به لساعة واحدة، فقضى الآلاف منهم جوعاً.

من 1916 إلى 1945
وفي أيار، هناك أيضاً احتفالية للشهداء يُحييها السوريون تخليداً لشهداء حامية البرلمان في دمشق، الذين سقطوا عندما قام المحتل الفرنسي بقصف البرلمان في الـ 29 من أيار من عام 1945 بالطائرات والمصفّحات، ليستشهد جميع أفراد الحامية من رجال الشرطة والدرك «باستثناء واحد منهم لُقب بالشهيد الحي» وبلغت وحشية المحتل الفرنسي أنه لم يكتفِ بذلك بل قام بحرق جثامين الشهداء بعد أن مَثّل بها.. السوريون يحيون كل عام ذكرى شهداء حامية البرلمان تحت عنوان «الأسطورة الخالدة» لـ 28 شرطياً ودركياً سورياً رفضوا الهزيمة والانسحاب أمام القوات الغازية.. نصبوا أجسادهم قبل البنادق متاريس في وجه الغازي وأقسموا ألّا يمر إلّا فوقها.. استشهد أفراد الحامية وبأجسادهم الدامية منعوه أن يمر.. ومن يدخل البرلمان «مجلس الشعب» سيجد لوحة مُتصدرة كتب عليها أسماء الشهداء وهم: «سعيد القهوجي – محمد طيب شربك – شحادة إلياس الأحمر – برهان باش إمام – مشهور المهايني – محمود الجبيلي – حكمت تسابحجي – إبراهيم فضة – محمد حسن هيكل – يحيى محمد الباقي – زهير منير خزنة كاتبي – ممدوح تيسير الطرابلسي – محمد أحمد أومري – محمد خليل البيطار– سعد الدين الصفدي – ياسين نسيب البقاعي – زيد محمد ضبعان – عيد فلاح شحادة – أحمد مصطفى سميد – أحمد محمد القصار– إبراهيم عبد السلام – جورج أحمر– محمد عادل مدني – واصف إبراهيم هيتو– عبد النبي برنية – طارق أحمد مدحت – سليمان أبو أسعد».. أما الشهيد الحي فكان إبراهيم إلياس الشلاح، والذي كان الشاهد الحي أيضاً ليروي بطولات رفاقه، وقد توفي في الـ24 من أيلول من عام 2002.
على امتداد الوطن
وهكذا لم يكد السوريون يتخلصون من المحتل العثماني حتى جاءهم المحتل الفرنسي، وكما طردوا الأول طردوا الثاني ليحققوا هذه المرة استقلالاً ناجزاً في عام 1946 عصيّاً على الانتكاس أو الاختراق أو الانتهاك.. ولم تتوقف مسيرة النضال.. فما زال هناك من يحتل الأرض ويهدد سورية واستقلالها وحريتها، فكان هناك عدوان عام 1967، ثم حرب الاستنزاف التي تلت حرب تشرين التحريرية عام 1973.. وكان هناك عشرات الشهداء الذين تصدرت أسماؤهم ساحات المدن وشوارعها ومدارسها، ثم لتتفرد سورية بإنشاء مدارس أبناء الشهداء تقديراً ووفاء لبطولات آبائهم الذين صانوا الوطن بدمائهم.
لكل ذلك، لنا أن نفهم لماذا كانت الهجمة على سورية بهذا الحجم من الحقد والتآمر، والقتل والتدمير، ليسقط فيها للسوريين أضعافاً مُضاعفة من الشهداء ممن سقطوا في عقود النضال الماضية.. ولا يزال السوريون يزفون الشهداء يومياً.. العدو نفسه، يستكمل مسيرة أجداده الغزاة القتلة، لكنه في كل مرحلة يطور أدواته الإجرامية ويوسّع حلف المجرمين بما يتناسب مع المرحلة التي يصل إليها من الوحشية والتعطش للدم.
مجد تليد
في سورية، ما زال للشهادة حكاياتها الخاصة رغم مرارة سردها.. في سورية – ولكل من يتوهم أو يعتقد للحظة واحدة أننا اعتدنا حكايات الشهداء فتمر مرور الكرام- نقول: في سورية سيبقى للشهداء مجد تليد، سيبقون سادة الزمان والمكان، سادة سورية الذين بفضلهم شمخت نصراً وعزة.. في سورية وراء كل شهيد أم تقف كوطن.. في سورية ينحني المجد إجلالاً لأبٍ يحتضن تراب ابنه الشهيد ويقول: كله فدا الوطن… في سورية يتوقف الزمن عند ابن وابنة، أخ وأخت، زوج وزوجة فقدوا الأغلى من الأهل والأحبة، ويحمدون الله أنهم ضمن الركب المقدس لعائلات الشهداء.. كيف لا نعجز ويعجز الكلام أمام الوهب الأقصى .. التضحية الأعظم، أمام أناس يأتون في صمت، ويَبذلون في صمت، لكننا نأبى أن يرحلوا إلّا بمهرجانات التقدير والإجلال والحب.. والعهود بأن نحفظ الوطن حتى آخر نَفْسٍ ونَفَسٍ فينا.
اقرأ أيضاً:

في حضرة مشاعل النور

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار