أقوى من النص

ستبقى اللغة سهلة التناول، ممكنةَ الاستخدام بما حضر من مخزون مفرداتها حين الحاجة إليها! ستعبّر عن صاحبها وهو منخرط ضمن الجماعة: في الفرح والحزن والمرض والعافية وفي الحب والكراهية وفي التموضع بمكان وظيفي أو اجتماعي، ولكنّ اللّغة في الواقع تشكّل حصيلة ورصيداً عند صاحبها حسب البيئة والثقافة والأخلاق أيضاً، لذلك صُنِّفت تصنيفاتٍ لا تُحصى، فهي لغة مهذّبة ولغةٌ بذيئة ولغة رفيعة ولغة أبناء شوارع ولغة بليغة ولغة متهافتة، ولعل التجربة البشرية التي خاضت في كلّ ماء اللغة وصلت لرفعِ لغة الأدب إلى ذروة تصنيفاتها وخلّدت كتّابها كأنهم روح الأمّة التي لا تموت، ومع ذلك يواكبُنا سؤال: هل ترتقي اللغة إلى مستوى التجربة الإنسانيّة المعيشة؟ ألا تضطرب وتزوغ وتراوغ حين يقف الأديب ليقول شيئاً عن الإنسان؟
يقول الرجل المتعب: كنت في عملي بحراسة منشأة حين علمت أن الزلزال دمّر بيتي. عدتُ تحت وابل المطر لأخرج أولادي الثلاثة من البيت. لم يخطر ببالي، لم أتخيل أنني سأجد من بيتي سقفه فقط وقد صار أرضيّة فوق ركام. لم أصدّق أن أطفالي سكتوا إلى الأبد. وظننت أنني سمعت في منام بعيد: أن الزلزال دمّر بيتي، لذلك جئت إليه لأستيقظ أكثر! لماذا جئت بعد فوات الأوان؟ أيهما كان المنام؟ يرفع الرجل رأسه فيتظهّر الوجه كاملاً: أخاديدُ عميقة وبشرة ترابيّة وعينان غائرتان تترجرج على زجاجهما المعكّر دموع ثقيلة وخدان غائران فيهما ما يشبه طيّات الستائر المهترئة وذقنٌ لا تستقرّ في حركتها، حتى حين تنحني الرقبة وتتلفّت لمسح المكان بنظرة! وبعد الوجه تلحظ العينُ البدنَ النحيلَ تحت الكتفين المقوّسين باتجاه الأرض والقدمين، وتلك الملابس المعفّرة بطين وغبار أبيض، وتتوقف قسراً على اليدين اللتين لا تتوقفان عن الحركات العشوائية، وهنا! في هاتين اليدين تتجمع وتنفرط كل الحكايات: يدان لم تأتيا في اللحظة المناسبة لكشفِ الضُّرّ عن الأطفال! يدان أزالتا الحجارة والرّدم وصاحبُهما يدرك عبثية الفعل!
يدان لم تدركا بعد أن كلّ المفاتيح سقطت منهما: مفاتيح البيت والمنشأة المحروسة وربطات الخبز وطعام المائدة المتواضع وأغطية البرد المسحوبة على أجساد الصغار بعد نومهم، قبل مفتاح الغد الضائع بين أكداس الركام والحزن الصاعق الذي يزداد مضاضة بعد تلاشي صعقته!
سكت الرجل عن الكلام وترك لأنّاته أن تواصل الكلام، وهذا الأنين له لغة هو الآخر قد تكون أصداءً لما قاله لتوّه، وقد تكون استسلاماً لنزيف دم الجرح وقد تكون غيبوبة مؤقتة تحمي صاحبها من الموت، وقد… وقد…، وفوق كل «قد» حقيقة لا مراءة فيها: الألم والمعاناة أقوى من النص، وما من لغة تستطيع الغوص هناك لتوازيهما وتنقل الترددات التي تحدث بمفاعيلهما!

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار
مناقشة تعديل قانون الشركات في الجلسة الحوارية الثانية في حمص إغلاق الموانئ التجارية والصيد بوجه ‏الملاحة البحرية.. بسبب سوء الأحوال الجوية صباغ يلتقي بيدرسون والمباحثات تتناول الأوضاع في المنطقة والتسهيلات المقدمة للوافدين من لبنان توصيات بتبسيط إجراءات تأسيس الشركات وتفعيل نافذة الاستثمار في الحوار التمويني بدرعا خلال اليوم الثانى من ورشة العمل.. سياسة الحكومة تجاه المشروعات متناهية الصغر والصغيرة والرؤية المستقبلية مؤتمر "كوب 29" يعكس عدم التوازن في الأولويات العالمية.. 300 مليار دولار.. تعهدات بمواجهة تغير المناخ تقل عن مشتريات مستحضرات التجميل ميدان حاكم سيلزم «إسرائيل» بالتفاوض على قاعدة «لبنان هنا ليبقى».. بوريل في ‏بيروت بمهمة أوروبية أم إسرائيلية؟ إنجاز طبي مذهل.. عملية زرع رئتين بتقنية الروبوت مركز المصالحة الروسي يُقدم مساعدات طبيّة وصحيّة لمصلحة المركز الصحي في حطلة القوات الروسية تحسن تموضعها على عدة محاور.. وبيسكوف: المواجهة الحالية يثيرها الغرب