ترجم أكثر من ثمانين كتاباً بين الإسبانية والعربية الأديب المترجم “رفعت عطفة” إلى حديقة الخلود

تشرين-نضال بشارة:
برحيلك يا صديقنا الأديب والمترجم رفعت عطفة ستفتقد أيامنا توشية نهارها بتحية صباحٍ باللغتين العربية والأسبانية، كنت ترسلها للأصدقاء على “الماسنجر والواتس آب”، مزدهية بصورة وردة أو أكثر، من حديقة بيتك.
رحل صديقنا رفعت صباح أمس الإثنين عن مائدة المحبة إلى فضاء أزرق أرحب، رحل بعد أن خذلنا بأنه سيتجاوز محنته كما كل مرة، لكن المرض وآلامه خذله أولاً، فمضى بعد أن أعطانا كتباً جميلة ترجمها من الإسبانية فاقت الثمانين كتاباً، وكتباً نسجها من خيوط آلامه ومحبته وتطلعاته وشغفه.. لم نقابل رجل ثقافة يشعّ شغفاً بالعمل الثقافي كأبي زيدون، حتى إننا نستطيع أن نعدّه مؤسسة في رجل ويكاد يتفرد بما قدّمه في مسيرة حياته الثقافية يوم كان مديراً للمركز الثقافي في مصياف بين عامي 1978- 2004، ثم مديراً للمركز الثقافي العربي السوري في مدريد (2004- 2008)، وأذكر أنني حين صرت على ملاك هذه الصحيفة ظللت أسافر لمصياف لسنتين وأنا أتابع أنشطة المركز الثقافي فيها، لكوني مراسلاً ثقافياً لـ”تشرين” من مكتبها في حمص، رغم أنها تتبع لمحافظة حماة، كنت أذهب من دون أي تعويض سوى مشاهدتي شغف العمل لدى رفعت عطفة الذي لم يحببنا وحده بل صرنا كأبناء له ولزوجته، فالسيدة أم زيدون تخاطبنا كما تخاطب الأم أبناءها، هل تذكرين يا سيدة “وفاء خرما” زيارتنا لهما في تشرين الأول عام 2021 المفعمة بنعناع مودتهما، وكان صديقنا رغم معاناته المرض بقدرة جيدة على مقاومته، وكانت ابتسامته لا تفارق بستان وجهه التي سترونها في الصورة المرفقة التي التقطتها له. وكنت قد ألفتُ بيته والمركز الثقافي مرات كثيرة بصحبة المبدعين من حمص من أمثال الراحلين المسرحي والموسيقي محمد بري العواني والشاعر محمد الفهد، وبرفقة الموسيقي عيسى فياض، والموسيقي شادي العشعوش، كنا نذهب كلما أقام نشاطاً تكريمياً لأحد المبدعين أو أسبوعاً ثقافياً، كانوا مشاركين بجهدهم وبأشواقهم.
قوس قزح نشاطه
أنجز عطفة خلال سنوات حياته ترجمات كثيرة فاقت الثمانين كتاباً في الرواية والشعر والمسرح، لأدباء معروفين يكتبون باللغة الإسبانية: إيزابيل الليندي، سرفانتس، بابلو نيرودا، أنطونيو غالا.. كما له أربعة مؤلفات، ديوانان في الشعر: إغفاءات الحب والأمل، قصائد الحب والأمل، وهما مطبوعان في إسبانيا باللغتين العربية والإسبانية، وله رواية (قربان)، ومجموعة قصصية صدرت عن دار (بدايات) السورية. كما له أربع ترجمات من الأدب العربي للغة الإسبانية.
وكان الأديب الراحل عطفة من أوائل من أقام ندوات تكريم للأحياء وللراحلين من المبدعين، لأنّ التكريم في اعتقاده نوع من المشاركة الوجدانية في الاعتراف بما قدّمه هذا الشخص أو ذاك لمجتمعه على مستويات مختلفة. فعقد ندوات تكريمية في حياتهم للمبدعين: الفنان التشكيلي الفلسطيني مصطفى الحلاّج، والموسيقار السوري محمّد محسن (محمد أحمد الناشف). والشاعر العراقي مظفر النواب، والشاعر السوري ممدوح عدوان، وفي أسبانيا كرّم المستعرب الكبير بِدرو مارتينِث مونتابِث.
وكان العمل في مركزين ثقافيين، مُعلّمه وملهمه أنّ الإنسان لن يكون شيئاً من دون أن يكون مبادراً، ولذلك عندما رفضت المؤسسات الرسمية تمويل ملتقى مصياف النحتي الأوّل والأخير (2004) بادر عطفة مع أصدقاء المركز إلى تمويله من جيوبهم ونجح الملتقى، وحين نجح لفت الانتباه فكُرِّم الفنانون المشاركون. وتكرر الأمر معه أيضاً في أسبانيا ولم يكن قد تأسّس المركز الثقافي العربي السوري فتواصل مع عمدة مدينة المنكّب الذي كان سيحتفل بالذكرى 1250 لنزول عبد الرحمن الداخل، الذي يقيم في كلّ عام تظاهرة ثقافية ثلاثة أيام حول موضوع معيّن، عامة ما تكون له علاقة بالأندلس، تُقدّم فيه محاضرات فقط، فعرض عليه برنامجاً وملتقى نحتياً سورياً: وكان في ذهنه الفنانون السوريون، الذين شاركوا في ملتقى مصياف النحتي (2004) وتلقى خبر تسميته مديراً لمركز الثقافي العربي السوري في مدريد وهم لا يزالون ينحتون فوعدهم بأنّهم سيشاركون في أسبانيا، قبل أن يعلم بأنّ المنكّب ستحتفل بذكرى عبد الرحمن الداخل، ومعرض تشكيلي ومعرض مهن يدوية ومطبخ سوري وموسيقا سورية، فأقام المعارض من خلال علاقات الصداقة، واستمرّت الأيام الثقافية التي كان يعقدها في الأعوام التالية على المنوال ذاته.
تكريم وتكريم
وحين تم تكريم الراحل رفعت عطفة ضمن فعاليات مهرجان دلبة مشتى الحلو الخامس للثقافة والفنون عام 2017 لمساهمته في نشر الثقافة داخل وخارج سورية، قال أجمل ما في التكريم الذي خصني به هذا الملتقى هو أنّه تكريم بسيط قامت به مؤسسة مدنية صغيرة بحجمها كبيرة بفعلها، بعيداً عن الصخب الإعلامي والمبالغة.

لا أريد أكثر من ذلك. كان صادقاً بكل شيء يتمثّله فهو لا يحب الاستعراض بما فعله، قنوع بأبسط الاهتمام رغم أنه يستحق الثناءات، ولعّل صالة المحاضرات في المركز الثقافي في مصياف تحمل اسمه كعربون وفاء لجهد رجل ثقافة استثنائي.

حدائق محبة الأصدقاء
ومن ما كتبه بعض الأصدقاء على صفحاتهم ما إن قرؤوا خبر رحيل الأديب رفعت، هذه المقتطفات: الشاعر نزار بريك هنيدي: الأديب والمترجم والمثقف الكبير الذي رسم مشهداً استثنائياً في الحياة الثقافية السورية، وخلق حالة خاصة من التفاعل مع الفكر والإبداع، وكان صديقاً حميماً للمثقفين والمبدعين جميعهم. أبو زيدون رفعت عطفة. يدخل اليوم سجل الخالدين.
المخرج المسرحي د.عجاج سليم: المثقف والأديب والمترجم الصديق سمة مصياف المنعشة رفعت عطفة. ألف رحمة لروحك الكاملة الشفافية.. الزميل الإعلامي جمال آدم : كم كنت خائفاً أن يأتي هذا اليوم الذي تغادر فيه من دون أن أودعك بنظرة أو كلمة أو زغرودة كتلك التي تزف بها الأمهات أحبابها. يا رفعت عطفة يا أبا زيدون حتى اللحظات الأخيرة كنت مشاغباً وناقداً ومشاكساً كما كنت وكما أنت؛ أما وقد حانت لحظة الرحيل خذ معك بعضاً من مصياف التي أحببتها وأحبتك.. والكثير من الأبطال الذين عشت معهم في رواياتك.. لقد كنت بارعاً في نقل الأدب الأسباني للعربية، لقد كنت بطلاً وأنت تنشئ مملكة في صحراء مترامية الأطراف، كل أبطالك اليوم قد حزنوا لهذا الرحيل وأنا حزين أيضاً لترقد روحك بسلام.. المفكر عطية مسوح: رفعت عطفة الإنسان الطيب النقيّ المحبّ، الأديب المرموق، الصديق الغالي وداعاً العزاء لعائلتك وأصدقائك والخلود لذكراك.. الشاعر والباحث د. باسم جبور:
“المتلك يابو زيدون
ما بيخاف.
تعبان من قهر الزمان
وعاف
وطالع ع جنة اسمها
مصياف”.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار