الملهم أرنست هوفمان روح الابتكار العاصفة
تشرين-حنان علي:
“ستعرف يا عزيزي القارئ؛ ما من شيء أغرب وأكثر جنوناً من الحياة الواقعية، هذا كل ما يمكن للشاعر تخيله، كحال انعكاسٍ باهتٍ لمرآة مصقولة”..
في يوم الرابع والعشرين من شهر كانون الثاني في كونيجسبيرج عام 1776؛ أنجب المحامي لودفيج هوفمان وزوجته ابناً سمياه إرنست، طفل لم يحتضناه لأكثر من أعوام ثلاثة ليُلقى بعد ذلك في كنف الفن والخيال والتصوف مع عائلة عمه المحامي..
وفي وقتٍ مبكر حينما ظهرت قدرات هوفمان الموسيقية والتصويرية، تم إرساله للدراسة على يد الملحن بودبيلسكي والفنان زيمان.. وكانت تطلعات الشاب الفنية (بيانو، رسم، مسرح) أثرت في انجذابه للقانون الذي درسه بتأثير عمه بجامعة كونيجسبيرج. أما ارتباطه بامرأة متزوجة تكبره بسنواتٍ تسع؛ فقد تسبب له بفضيحة كبيرة عام 1796.
وقوبل الشغف الموسيقي والمسرحي والرسوم الكاريكاتورية بالرفض والنفي مرة تلو المرة. حتى نقلت الحياة هوفمان إلى مدينة بامبرغ، حيث تسلم منصب كابيلميستر بصحبة زوجته البعيدة كل البعد عن تطلعات زوجها المتأججة..
هنا في هذا المكان حيث نشأت فكرة القصة اللاعقلانية الأولى “كافاليير غلوك” التي نشرت في عام 1809 حيث تجلت شخصية الفنان الحرة المتعارضة مع تقاليد المجتمع المتعفن. غير أن مزمار الحي لا يُطرب، هكذا كان حال آرنست ثيودور أماديوس هوفمان مع النقاد الألمان، الذين آثروا الرومانسية المدروسة والجادة، ليكتسب شعبية في البلدان الأوروبية الأخرى وفي أمريكا الشمالية، حتى وُصف في روسيا بأنه “أحد أعظم الشعراء الألمان، رسام السلام الداخلي”. أما محاولات هوفمان لكسب العيش من خلال الفن فما أدت إلّا لمزيد من ضيق الحال، والإهانة والفقر والهجران الذي كان مصير الفنان الموهوب من عامة الشعب الساعي إلى بناء ثقافة جديدة لرفع مستوى بلاده، تماماً كسيزيف، وما انفك هوفمان يعمل كمحام ممارسٍ مهنته المكروهة التي لا معنى ولا نهاية لها من وجهة نظره، ليصبح المنقذ للموسيقا والأدب اللذين تجليا بتخيلات مخيفة فوق الورق.
“لا أحد يستطيع أن يفهم الشاعر إلّا الشاعر، ولا ينقل الشعر سوى روح رومانسية تكرسه في قدس الأقداس، وتستوعب ما يقوله الرسام من وحيه”.. إضافة إلى أنه أحد أركان الحركة الروائية الرومانسية، فقد كان إرنست هوفمان، ملحناً، وناقداً، وكنتاج المنزل المحطم، جمع بمهارة بين رحلات الخيال الجامحة والاختبارات الحية للشخصية البشرية، حيث تداخلت الأجواء الغريبة والغامضة للمجانين والأشباح في حكايته بأسلوب من السرد الواقعي الدقيق، كما تجلى الصراع داخل هوفمان بين العالم المثالي لفنه وحياته اليومية في العديد من قصصه، أما استخدامه للخيال، وذلك بدءاً من الحكايات الخيالية إلى القصص المرعبة الخارقة للطبيعة، فكان بمثابة مصدر إلهام للعديد من الملحنين الأوبراليين.. كما أثرت قصص هوفمان على الأدب والفنون في القرن التاسع عشر، مشكّلة أساساً لأوبرا جاك أوباينباخ الشهيرة “حكايات هوفمان”، التي تظهر فيها شخصية متخيلة له كبطل للعمل. كما ارتكزت باليه تشايكوفسكي الشهير “كسارة البندق” على “كسارة البندق وملك الفئران». بينما استندت باليه كوبيليا التي ألف موسيقاها ليو دليباس إلى قصتين غريبتين لهوفمان. في حين أن كريسلريانا شومان مستوحاة من إحدى شخصيات هوفمان: “يوهانس كريسلر”. كما بان تأثيره جلياً على كتّاب عظام أمثال: إدغار آلان بو، ونيقولاي غوغول، تشارلز ديكنز، شارل بودلير، جورج ماكدونالد، فيودور دوستويفسكي، وفيرنون لي، فرانس كافكا، وألفرد هتشكوك..
أما قصّة “المنوِّم”، المنشورة عام 1816؛ التي تظهر سقوط بعض الأشخاص في حب إنسان أوتوماتيكي في حبكة مرعبة مثيرة للأعصاب، فقد جعلت من سيغموند فرويد يكتب مقالة كاملة عنها بعنوان: (الغريبThe Uncanny ).
أبطال هوفمان ما انفكوا يستمعون باستمرار إلى موسيقا ملحنيه المفضلين: كريستوف غلوك، وولفغانغ أماديوس موزارت، كما يتحولون إلى لوحة ليوناردو دافنشي، جاك كالوت كونه شاعراً ورساماً.. ابتكر هوفمان أسلوباً موسيقياً تصويرياً شعرياً لافتاً.
“مثل رسام جريء، إن رسمت ببضع ضربات جريئة الخطوط العريضة لصورة روحك، فستتمكن بسهولة من تكثيف الألوان واحداً تلو الآخر، يمكنك حشد تلك الشخصيات الحية التي حملت أصدقاءك بعيداً.. أولئك الذين رأوا أنفسهم مثلك وسط المشهد المتسلل من روحك”.
أعمال خالدة كتبها هوفمان منها: “دون جوان” أخبار المصير الآخر لكلب بيرغانزا “القدر الذهبي” و”مغامرة في الليل في ظل السنة الجديدة” و”المسرحية الخيالية ” و”إكسير الشيطان” و”كسارة البندق و”ملك الفئران”و”رجل الرمال” و”نذر قلب الحجر ” و”سعادة اللاعب” و”رؤى” و”مصاص الدماء” و”المناظر الدنيوية للقط المر” و”سيد البراغيث” و”الزوجي” و”اللصوص” و”أخطاء” و”الأسرار” و”الروح الناري” و”العدو” و”الاسترداد” و”نافذة الزاوية”.
كل ذلك عبر سرد ثنائي الأبعاد وتداخل عميق بين الواقعي والخيال، فقد بات هوفمان أول من جعل العالم المادي شاعرياً متخذاً موقف فنان مراقب لا يتدخل في الحياة، مؤثراً.. إضافة لملامح الكمال الجمالي والنزاهة الداخلية في فعلٍ إبداعي رائد.