رهبان المسرح المخلصون بعيدون عن الأضواء ..محمود خضور ورضوان جاموس
تشرين-سامر الشغري:
أن يكون الإنسان مبدعاً لا يعني ذلك بالضرورة أن يكون مشهوراً، فللشهرة شروطها ومقاييسها التي لا تتطابق مع الإبداع، وكم من مبدع قضى سنوات عمره يقدم عصارة جهده، وظلت شهرته محصورة في نطاق محدد، كما نجد في حياة المسرحيين الراحلين رضوان جاموس ومحمود خضور.
ولكن في حياة هذين المبدعين تقاطعات أخرى عدة، فكلاهما من أبناء طرطوس والاثنان درسا المسرح أكاديمياً ثم أخلصا له للنهاية، وصلبا أنضر سنوات عمرهما على خشباته.
محمود خضور الذي رحل عن عالمنا في تشرين الثاني الماضي، أوفد في بعثة إلى موسكو عقب نيله الشهادة الثانوية لدراسة الإخراج المسرحي في معهد الفنون المسرحية، وعندما عاد للبلاد إثر تخرجه سنة 1973 انخرط في الإخراج، فقدم كما ذكر في حوار أجرته معه مجلة الحياة المسرحية لمصلحة المسرح القومي اثنين وعشرين عرضاً، نصفها من تأليف الراحل ممدوح عدوان، إذ شكل معه ثنائياً قل نظيره على الخشبة السورية.
أما رضوان جاموس الذي توفي الإثنين الماضي، فانجذب بدوره إلى «أبو الفنون» منذ شبابه الباكر في السبعينيات، فشارك في عروض عدة تمثيلا وتأليفاً وإخراجاً لمصلحة المسرح المدرسي بطرطوس، وأسس فرقاً مسرحية قبل أن يكون في عداد الدفعة الأولى من طلاب المعهد العالي للفنون المسرحية الذي أحدث سنة 1977.
كرس الاثنان حياتهما للخشبة في إخلاص غريب ونادر، فخضور الذي ولد في حصين البحر تلك البلدة الوادعة التي تضج بالمثقفين والمبدعين، سكن في العاصمة دمشق وظل يخرج للمسرح الذي وصفه بالفن المعقد والصعب دون كلل، وعمل تحت إدارته ممثلون كبار أمثال غسان مسعود وجيانا عيد والراحل عدنان بركات.
أما جاموس فاتخذ قراراً وصفه زميل دفعته الفنان القدير أيمن زيدان بالحاسم والجريء، بأن يكمل مشواره الاحترافي في مدينته طرطوس، ويحمل هواجس حلمه المسرحي بين أروقة المدينة الهادئة وبعيداً عن العاصمة، وسعى هنالك لنشره على أوسع نطاق وعلى ربطه بثقافة المعرفة، وكان من أوائل الأصوات التي نادت باستثمار المسرح في العملية التعليمية وإدخاله في مناهجها.
ولأن المسرح مازال في حياتنا طقساً نخبوياً تتحاشاه الأضواء، فإن المفارقة المؤلمة التي نجدها عند الاثنين و اشتكى منها خضور ، أن الناس لم تعرفه على نطاق واسع إلا عندما اشتغل كممثل في التلفزيون، إذ ظهر في عدة أعمال درامية بأدوار ليست رئيسة، وأتذكر في هذا الصدد استغرابه خلال مقابلة أجرتها معه الزميلة ثناء عليان، من أن مشاركته البسيطة في مسلسل (دنيا) أعطته شهرة فاقت ما حصل عليه من عمله المسرحي الطويل، لدرجة أن كل من تابع المسلسل كان يشير إليه بالأصبع ويناديه بـ «أوكي»، اسم الشخصية التي لعبها في مسلسل (دنيا) لشخص مسؤول صاحب نفوذ يرتدي نظارة شمسية في منتصف الليل.
أيضا جاموس شارك مع زملاء له في أعمال الدراما التلفزيونية، ويبدو أنه كان خياراً مفضلاً في المسلسلات التاريخية ربما لملامح وجهه وإتقانه الفصحى وقوة أدائه من جراء عمله الطويل على الخشبة، ولكن هذه المشاركات أخذت تتراجع حتى غابت كلياً بسبب علاقات ومصالح وجد نفسه خارجها، كما ذكر في حوار مع وكالة «سانا» قبل وفاته بثلاثة أعوام.
من الأدوار المؤثرة التي لعبها جاموس كان (فولك الخامس ملك القدس) في مسلسل صلاح الدين للمخرج الراحل حاتم علي، لقد بز ابن المسرح في أدائه نجوم الدراما، إذ جسد شخصية أحد أمراء الحروب الصليبية من دون مبالغة أو استعراض.
ومازال في صومعة المسرح السورية رهبان آخرون أخلصوا لها كمحمود خضور ورضوان جاموس، ولكن عددهم آخذ في التقلص ما دامت عاقبة هذا الإخلاص النكران والنسيان، وما دامت الأضواء لا تسلط إلا على سكان الشاشة الصغيرة، وتنسى أبناء المسرح الرحيب.