هل أنا كلُّ شيءٍ أم لا شيء؟! قراءةٌ في رواية «الجحيم» لهنري باربوس

زينب عز الدين الخير:
صغيرة كنت، لم أتجاوز الثالثة عشرة من عمري، حين عادت أختي «مناة» من عملها ومعها رواية الجحيم، وكنا – عادة – نتناهب الرواية أول دخولها للبيت، على الأغلب نبدأ القراءة كلنا في اليوم ذاته، لذلك وضعتْها «مناة» على طرفٍ في مكتبة البيت.. في اليوم التالي جاءت إليَّ رفيقة اللعب في الحارة، وقفت أمام مكتبتنا لتستعير قصة تقرؤها، وتناولتْ «الجحيم». قلت لها:
– في الأمس جلبتها أختي، لم يقرأها أحد بعد!
– أقرؤها اليوم، وغداً أعيدها!
لم تعدِها في الغد، ولا في أكثر من غد تلاه، وحين سألتها أجابت باستحياء أن أختها الكبرى أخذتها معها إلى اليمن، حيث تدِّرس هناك… وهكذا راحت الرواية، وبقي اسمها في البال، مع حرجٍ دفين، فقد أخبرتني أختي أنها صعبة، ولا تناسب عمرنا آنذاك، ويفضل ألا نطلع عليها.. وحين قرأت مدائح «ميلان كونديرا» لهذه الرواية، عدتُ لقراءة «الجحيم» للكاتب الفرنسي هنري باربوس، والصادرة للمرة الأولى سنة 1903… ويا لها من رواية!. ينزل البطل في «بنسيون» عائلة «لومرسييه»، بكل ما له من مزايا مادية ومعنوية، وهو بطل لا نعرف اسمه، وليس ذلك ضرورياً بعدما تحول إلى أنموذج للكل، فهو يقول عن نفسه: «ليست لي عبقرية، ليست لي رسالة، ليس لي قلب كبير، لا شيء عندي، لا أساوي شيئاً، و رغم كل هذا فإني أريد تعويضاً من هذه الحياة».. صدف أن سمع صوتاً يأتيه من الغرفة المجاورة، فتش فوجد ثقباً عالياً في جدار غرفته، نظر من خلاله، فبدت له الغرفة المجاورة مكشوفة، وراح يتلصص على النزلاء الذين يتبدلون بشكلٍ يومي تقريباً، وكلما جاء الغرفة نزيلٌ جديد، جاءت معه قصة جديدة، يطل عليها الراوي من أعماق ذاته، ليشاهد نفساً بشرية تفرد نوازعها في فضاء الغرفة بعدما تغلق على ذاتها الباب.. وتمكن منه الهاجس فصار لا يفارق غرفته إلا قليلاً، يراقب كلّ التفاصيل والخصوصيات، منشغلاً بمن حلَّ ومن غادر، واصفاً العلاقات بين البشر؛ الحب، الخيانة، الوفاء، والاستغلال، ممعناً في وحدته، راصداً كيف يعيش الناس، وعلى الأغلب في جحيمهم، أو لعله جحيمه هو الذي جعله بدلاً من أن يعيش حياته وتعاستها يعيش حيوات الآخرين وتعاستهم.. متخطياً الجزئي إلى الكلي، والخاص إلى العام، متجاوزاً الوجود إلى العدم، بحثاً عن الحقيقة؛ حقيقة الحياة.. كان يؤكد لنفسه دائماً أنه لا يستطيع رؤية كل الحقيقة بسبب صغر الثقب وأيضاً بسبب العتمة، في إشارة إلى إشكاليات رؤية العالم من زاوية محددة، بعيداً عن النور والحرية.. ويختم الرواية بقوله:«…كما أعتقد أنه لا توجد حولنا سوى كلمة واحدة، كبيرة وشاسعة، هذه الكلمة هي:« لا شيء»، وهي – كما يبدو لي- لا تعني انعدامنا ولا شقاءنا، بل على العكس، ما دام كل شيء في داخلنا، فهي تعني تأليهنا وتثبيت وجودنا».
يعدّ «كولن ولسن» بطل رواية الجحيم مثالاً للإنسان غيرالمنتمي الأنموذجي؛ إنه يرى أكثر وأعمق مما يجب، وهو لا يرى إلا الفوضى.. عمل« هنري باربوس» في الصحافة طويلاً، وأصدر سنة 1920 مجلة شهرية هي التي تحولت فيما بعد إلى جريدة «اللوموند» المسائية، كان خطيباً مفوهاً، يساريّ النزعة، يؤمن«بالدولة العالمية»، وأنشأ تجمعاً ضمَّ كل الأدباء الأحرار المناهضين لعبودية الإنسان والداعين لانتصار الشعوب، سُميَ «اتحاد العقليين»، كما ترأس جمعية لمحاربة النازية والفاشية سنة 1933، واشترك في جمعية استقلال سورية ولبنان ونادى بتحرير بقية الدول العربية والهند، وإفريقيا، وانتهى به الأمر إلى عقد «المؤتمر الثقافي العالمي» في باريس سنة 1935، وفي العام ذاته توفي في مستشفى الكرملين.
اقتباسات من الرواية:
-التطلع إلى ما هو محرّم، واشتهاء ما هو للغير، فكرة أزلية تلازم الإنسان منذ خروجه إلى الدنيا، وحتى خروجه منها.
-الطبيعة، وما وراء الطبيعة شيءٌ واحد، فلا وجود لأسرار في الحياة كالتي توجد في السماء.
– نحن خليطٌ أكبر بكثير مما نظن، من يدري ماذا نكون!
– أعظم صور الألم الحقيقي هي الهموم.
– تنطوي كلّ المبدعات الكبرى؛ بشكل خاص لأنها كبرى، على شيء لم يستكمل بعد
-لا وجود للجحيم إلا في الخوف من الحياة.
– العطف والمودة أعظم من الحب، ومع ذلك فإن ارتباط أي اثنين من دون حب سيكون ارتباطاً واهناً ضعيفاً.
– كل الجرائم والإساءات ما هي إلا محاولات مكتملة في صورة الرغبة التي لا نهاية لها، والتي هي جوهرنا، وأصل نفوسنا العارية، ما هي إلا « حبُّ تملك ما هو للغير».

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار