أحمد روماني في “الناجي”…الملاعق تقودُ العالم!

تشرين – لبنى شاكر:
إذا كانت النجاة مُعادِلاً للخلاص والسلامة، وربما الهروب أيضاً، فهي ليست إلّا الوقوع في مأزقٍ جديد إذا ما سَلِمَ الناجي من الموت مثلاً، لِيجد نفسه جائعاً أو مُشرّداً أو فاقِداً للذاكرة أو الأهل أو الحياة التي أحبها ويُدرك أنها لن تتكرر، وعلى هذا تبدو فكرة العافية من البلايا والمصائب مُؤقتّة، لا تلبث أن تنتهي، ليبدأ امتحانٌ جديد يصحبه بحثٌ عن الراحة ثانيةً وثالثةً وهكذا، فهل من نجاةٍ حقاً؟.
“الناجي”، عنوانٌ اختاره أحمد روماني لمعرضه المُستمر حتى نهاية الشهر الجاري في صالة جوليا آرت، تعاطى فيه مع النجاة بوصفها عبوراً وانتقالاً من حالةٍ إلى أخرى، ليتوقف عند الفاصل بينهما، أو ما يُمكن تسميته بالبرزخ أو الجسر أو القارب مثلاً، وربما كان سكّةً أو حبلاً أو زمناً، لكنه بالتأكيد ليس مُعدّاً للاستقرار لذلك كان شتات النفس فيه كبيراً ومؤلماً، أكثر مما سبقه وأفضى إليه.
يقول روماني في حديثٍ إلى “تشرين”: الناجي من الموت، لم يسلم من رواسبَ وأمراضٍ نفسية، ولم ينجُ من آثار الأهوال والفواجع، منها ما يُسمى اضطراب الغربة عن الواقع، وهي حالة من تبدد الشخصية وفقدان الهوية، تبدو فيها الذات غير واقعية، بسبب التثبيط الطويل الأمد للعاطفة نتيجة الصدمات كفقدان الأشخاص أو الفقر، لذلك يرى الإنسان نفسه في حلمٍ أو يظن أنه ممثلٌ في فيلم، كما تتعقّد علاقته بجسده، فيظن أن له جسدين.
قدّم روماني ستةً وعشرين كاركتراً من البرونز، مشغولة ببراعة تتمايز فيها بوضوحٍ لافت الأسطح الملساء ونظيرتها النافرة بخشونة، ركّز فيها على الأجساد المُمتلئة بشكلٍ لافت، وحمّل كلاً منها ملعقة، إشارةً إلى أزمة الجوع التي تظهر عادةً في الحروب والمشكلات الاقتصادية، عدا عن أنها وضعٌ شبه دائم في عدة أماكن من العالم، وإلى ذلك أيضاً، تعددت استخدامات الملعقة متفاوتة الحجم، فهي دليلٌ على قوة، وسلاحٌ للهجوم، وعكّازٌ، وفكرةٌ تخرج من الرأس أو تتوضع في الفم، حتى إنها تستحيل إلى عصا أوركسترا، تقود العالم لا العازفين فقط.
لا تمتلك المنحوتات أقداماً رغم أن نصفها العلوي بشري، ليتشكّل السفلي على هيئة أخطبوط؛ عدة أذرع مُتداخلة ومُلتوية، عليها حلقات ومجسّات عصبية، تمنح هذا الكائن البحري ملامح شيطانية، تجعله قادراً على خطف فريسته وشل حركتها، ربما يكون هذا دليلاً على الخير والشر الأصيلين في النفوس، جائعةً وشبعانةً، لهذا تُقايض إحدى الشخصيات، كائناً صغيراً سرق مِلعقتها، بصغيره الذي لم يخرج بعد من البيضة، دونما رأفةٍ به.
تتضخم أذرع إحدى المنحوتات لِتُقعِدها عن الحركة، فيما تنظر إلى جسدها الثقيل مذهولة، بينما تُحاول أخرى تحريك جسدها واضعةً الملعقة خلف رأسها، كأنّ قناعتها بقليلٍ من الطعام، منحتها حريةً في الحركة، وهو ما نراه أيضاً حين تصبح حركتها انسيابية سهلة في الماء، مُستبدلةً ملعقتها بحقيبة، وفي هذا السياق تنسحب فكرة الامتلاء إلى ما هو أبعد من الجسد المُترهل، من دون أن ننسى التحوّل الذي يمر به.
في المعرض الخارج عن المألوف في ميدان النحت، كثيرٌ من التناقضات، بين الألم والسخرية، التخمة والضعف، الأسطورة والحقيقة، الغفران والحقد، لذلك يصعب أن يتخذ المُتفرج موقفاً من الأشكال التي تشبهه وتختلف عنه في وقتٍ واحد، فهي فاقدة للسيطرة على جسدها تماماً كمعظمنا في عدم الرضا عن أجسادنا وفقدان القدرة على التحكم بها في حالات الغضب والجوع والمرض والاكتئاب، لا يمكن لنا لومها كما يصعب علينا التسامح معها كانعكاسٍ لا يحتمل التأويل لِما في دواخلنا، فكيف ننجو وتنجو؟.
النحّات أحمد روماني، حاصلٌ على إجازةٍ في الفنون المسرحية قسم التصميم المسرحي، وماجستير من أكاديمية الفنون المركزية في الصين، وهو أستاذٌ محاضر في المعهد العالي للفنون المسرحية لعدة أعوام، لديه مشاركات مُنوّعة منها عرض الشوارع الخلفية في القاهرة مع فرقة فليب جانتي “تصميم ونحت أقنعة”، عرض عواء الكلاب للمخرج الألماني رايموند روزايروس “تصميم أقنعة وسينوغرافيا”، عرض أوبرا تانهوز للمؤلف الموسيقي فاغنر في بكين “تصميم ونحت إكسسوار”.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار