بندر عبد الحميد.. وهدنتُه مع العالم البرّاني

تشرين-راوية زاهر:

(بندر عبد الحميد دهشة السّينما وصورة الكلمة) عنوان للندوة الثقافية التي أعدّها ووثّقها الدكتور اسماعيل مروة، ونزيه الخوري في كتاب بالعنوان نفسه صادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب.. وهو يتحدث عن ناقد وشاعر استثنائي رحل عن دنيانا مع بداية سنة ٢٠٢٢م تاركاً خلفه ثلة من الأصدقاء الأوفياء، وإبداعاً قلّ نظيره لشخص هزلت في عينيه كل المفارقات وأصوات التبجيل والنقل لشعره، مكرساً سلطة الدلالة وعلاقتها بمدلولها كما عبر عنها د. عابد اسماعيل أثناء مداخلته في هذه الندوة- الكتاب.. فالمعنى كما قال د. اسماعيل عند بندر هو أسّ القصيدة وغايتها القصوى، لذلك نراه يبتعد عن الغموض والترميز الشديد وينفر من الزخرفة البلاغية والصّرفية، ساعياً إلى تكريس قيمة شعرية أخرى تتكئ على الوضوح والتلقائية وأحياناً التّقريرية.

وفي ديوان الشّاعر الرّاحل (حوار من طرفٍ واحد) نرى ذات الشاعر مكشوفة، وعارية، تستقبل العالم البرّاني بكلّ ضجيجه وتناقضاته وشوارعه وضحاياه، والمتكلم في الكتاب مغامر خَبرَ العالم وذاقَ طعمه، وهو يسير مسلحاً بسلاح الحدس والبداهة.. وأزمته الوجودية لاتقوم على التنافر مع العالم بقدر ماتقوم على التناغم والتآلف معه:

«جميلٌ أنتَ كما أنتَ

أنظرُ إليك دائماً

بعين نحّاتٍ إغريقي

أوشاعر بنفسجي

هبط على الأرض في أول الرّبيعْ.»

وهذه الأشعار من ديوان حوار من طرف واحد ٢٠٠٢م.

بلغته الساحره دائماً تعبر القصيدة عن نفسها متحركة تخاطب الأعصاب والحواس، أمّا الروح فتسحرها، وهنا تكمن بنية القصيدة المستمرة عند بندر في حضور مفاهيم الترميز والتأويل التي تنتج لنصه التّعدّد حدّ الالتباس:

«ماذا ستفعل بنفسك

إذا ضاع حمارُك الوسيم

في هذه الصحراء؟؟!.»

وتحت عنوان جديد.. للدكتور اسماعيل مروة :

(بندر عبد الحميد.. كون من حبّ)..

والذي تحدّث عن الشاعر على المستوى الشّخصي والشّعري.. فعلى الصعيد الشخصي كان بندر عبد الحميد إنساناً حراً لاترافقه صفة إيديولوجية أو معتقد، وكان بيته مفتوحاً، وللزائر فيه حرية اختيار الشراب الذي يريد، وحرية الضّيافة فالطعام مفروش ولك عنده حرية الاختيار والقرار.. أما على الصّعيد الشّعري فقد كان من الأصوات الحداثية النادرة، طليعيّاً من شعراءالسّبعينيات والثّمانينيات، شاعراً حداثيّاً غير مهتمّ بتلاوة شعره أوعرضه أو استعراضه على الناس.

بندر الإنسان المحبّ، شغل قلب الدكتور اسماعيل مروة وكتب عنه سطوراً من نور.. ليكون القسم الثاني من الكتاب مختارات شعرية لعناوين مميزة صدرت للشاعر والناقد بندر عبد الحميد الذي شاغلته الصّحافة واشتغل فيها، لينتقل إلى السّينما والنّقد السّينمائي، وفي كل جانب من جوانبه كان بندر متفوقاً وهادئاً تاركاً لنا سبعة إصدارات شعرية متنوعة المشارب، ساطعة الحضور.. مطالباً بحرية الطّبيعة الخالصة، حرية النّهروحريّة بائعة الورد العمياء، وحرية الشّمس. قائلاً:

«العاشق والنهرُ وبائعةُ الورد

وتمثال الحرية والشمس

يغنّون وينتظرون الصيف القادم

ينتظرون الصيف القادم.»

ليحدثنا عن الكآبة أنها ذات أصل ريفي قادمة من بعيد..

«حبيبتي صافيةٌ كزجاجةٍ قديمة

هذه عظامنا الدافئة

هذه جلودنا وأظافرنا

أيّها الغزاة

الأرضُ لنا..»

لينتصر في نهاية المطاف للحبّ غير آبهٍ برماد الحرب، وفي معركة الحبّ لافرق عنده بين الموت الشديد والحرية..

«العاشق:

لوغاب حبيبي

كيف تضيء الدنيا؟

لو جاء حبيبي يلبس أوراقاً ذابلة

لو جاء وفي كفيّه رمادُ الحرب

سينتصر الحبّ.»

ليغيب بندرعن عالمنا تاركاً إرثه الروحي والشعري، رافضاً أي فراق.. وذاته الرافضة لليأس والقنوط، محاوراً دائماً، إذ يرى الحب كالحوار يزداد تأججاً ورسوخاً كلما عانى النقص والعوز، وخاصة عندما لايحقق شرط الإشباع، ويكون هوالحال من طرف واحد:

«ضاع زمن طويل

قبل أن تفهمني جيداً

ولم أقل لك يوماً:

هذا فراقٌ بيني وبينك. »

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار