أخيراً اهتدينا إلى الخلل الذي نسف “آمال القمح”.. الزراعة: اعتماد أصناف جديدة.. والإنتاجية ليست مسؤوليتنا وحدنا

تشرين – ميليا اسبر:
سنوات عجاف مرّت على موسم القمح ، بدأ هذا المحصول الاستراتيجي بالتراجع عاماً بعد عام رغم تصريحات المسؤولين المتتالية بأنّه لا خوف على قمح بلادنا, لدرجة أعلنت فيها وزارة الزراعة أن عام 2021 سيكون عام القمح بامتياز، لكن كل الآمال التي عُقدت على هذا التصريح أصيبت بالخيبة، بعد أن ظهرت البيانات, ليتبين أنه كان من أسوأ المواسم منذ سبعينيات القرن الماضي .
تشير بيانات إنتاج القمح التي تصدر سنوياً إلى ضعف في إدارة هذا الملف، فلم تنجح كل الوعود بتحسين زراعة وإنتاج هذا المحصول ، ليلمس الفلاح والمواطن معاً عدم الصدق في طرح الحلول، ولولا ذلك لما وصل المحصول إلى درجة كبيرة من التدني في إنتاجه .
عوامل الطقس وتغيّر المناخ، وكذلك الحرب والحصار الاقتصادي مبررات جاهزة وشمّاعة يستخدمها المسؤولون عن ملف القمح بأنها السبب الأساس في تراجعه، لكن من الواضح وجود عجز في ابتكار حلول تنقذ القمح وتعيده إلى ما كان عليه سابقاً .
إنقاذ القمح السوري يحتاج آلية عمل مختلفة تتناسب والظروف الاستثنائية التي تمر بها البلاد، كما يتطلب من المعنيين بشأن القمح التفكير من خارج الصندوق، وإلّا ستكون النتيجة إمّا مراوحة في المكان، أو الرجوع خطوات إلى الوراء.

أسباب تراجع الإنتاج
مديرة الهيئة العامة للبحوث العلمية الزراعية الدكتورة ماجدة مفلح تقول : يعود تراجع إنتاج القمح لأسباب, أهمها: تواتر موجات الصقيع وانحباس الأمطار في الفترات الحرجة من حياة النبات، حيث أدّى ذلك إلى ضعف نمو النباتات بسبب انخفاض درجات الحرارة إلى ما دون الصفر المئوي (الصقيع) والتي رافقت فترة الإزهار، وتالياً إعطاء سنابل فارغة أدت إلى خروج مساحات واسعة وعدم وصولها لمرحلة الحصاد وتحولت إلى الرعي، وكذلك قلة توافر مستلزمات الإنتاج وخاصة المحروقات.
وأشارت إلى أنّ العقبات الدائمة التي تقف عائقاً أمام تطوير زراعة وإنتاج القمح في البلد هي البطء في زيادة الإنتاجية بوحدة المساحة نتيجة نقص التراكيب الوراثية الجديدة , وذلك بسبب الحصار الاقتصادي المفروض على البلد، إضافة إلى تعرّض الزراعات للإجهادات الحيويّة وغيرها (كالإصابات الحشريّة والمرضيّة)، وشراء بذار من مصادر غير موثوقة (السوق المحليّ) في بعض الأحيان، ونوعية البذار مع انتشار بذور الأعشاب الضارة و الأمراض، ناهيك بتفتت وتشتت الحيازات الزراعية، وتالياً عدم جدوى الاستثمار الزراعي للحيازات الصغيرة واستثمارها بمشاريع خدمية أكثر ريعية من المشاريع الزراعية لصعوبة تطبيق الدورات الزراعية…. إلخ
أصناف جديدة للقمح
وكشفت د. مفلح عن وجود خطّة استراتيجيّة للحفاظ على هذا المحصول المهم , وذلك من خلال اعتماد أصناف جيّدة تكون عالية الغلّة ومتحملة للجفاف والأمراض، ويوجد عدد من السلالات المبشّرة من القمح القاسي والطري, يتم الآن إعداد تقارير الاعتماد لها لتقديمها إلى اللجنة الوطنية لاعتماد الأصناف في البلاد، بالإضافة إلى الاستفادة من المصادر الوراثية للقمح (أصناف محلية – أنواع القمح المختلفة بما فيها البرية) بنقل المورثات المسؤولة عن تحمّل الإجهادات الحيّوية (أمراض وحشرات) واللاحيّوية (جفاف – حرارة) منها إلى القمح المزروع، منوهة بوجود التعاون الإقليمي والدولي (المصادر الوراثية والمعلومات واستنباط الأصناف)، ونشر الحزم التقنية المتكاملة وحثّ المزارعين على تطبيقها (أصناف محسنة – معدلات بذار– تسميد …).وكذلك تطبيق سياسة سعريّة مشجعة للمحاصيل الزراعية.
ليست مسؤولية “الزراعة” فقط

و بالسؤال عن أنّ وزارة الزراعة تطالب الفلاحين بزراعة كل شبر من أراضيهم بالقمح، لكن في المقابل لا يتم تزويدهم بأدنى مستلزمات الإنتاج أجابت د. مفلح بأنّه من واجب الوزارة أن تطلب زراعة كل شبر من الأراضي بالقمح، ولا تدّخر أي جهد لتأمين مستلزمات الإنتاج ،ولكن الجميع يعرف الظروف الاقتصادية في القطر والحصار المفروض عليه، مبينة أنّ انتاج القمح ليس مسؤولية وزارة الزراعة فقط بل مسؤولية جميع الوزارات (الموارد المائية ، النفط ، الكهرباء وحتى وزارة الإعلام من خلال البرامج الإرشادية المستمرة والرسائل الإعلامية عن طريق التلفزيون والبرامج الإذاعية)، وذكرت أن المساحات التي كان مخططاً لزراعتها أكثر من 1.5 مليون هكتار، بينما المساحة المزروعة بالفعل حوالي 1.2 مليون هكتار.
الحفاظ على التنوع البيولوجي
لإنتاج القمح آفاق مستقبلية مبشرة بالخير- حسبما ذكرته د. مفلح – وذلك عن طريق الحفاظ على التنّوع البيولوجي مع ضرورة جمع الأصول الوراثية من البلدان والمؤسسات التي تعمل في مجال القمح واستخدامها كمصدر لمورثات جديدة , يمكن إدخالها في التراكيب الوراثية الجديدة باستمرار من أجل التوسيع في قاعدة التصنيفات الوراثية، إضافة إلى استنباط أصناف جديدة عالية الإنتاجية سواء من القمح الطري أو القاسي، وأيضاً التوسع في التجارب الخاصة بالمعاملات الزراعية, وخاصة للأصناف المستنبطة، و في إنتاج بذار عالي الجودة للأصناف الجديدة مع إنتاجه بدرجة عالية من النقاوة الوراثية .
دعم الفلاح الحل الوحيد لإنقاذ الزراعة
بدوره أشار الخبير التنموي المهندس أكرم عفيف إلى تراجع محصول القمح, ولاسيما في منطقة الغاب بسبب زيادة تكاليف العملية الإنتاجية والخسائر التي مُنيّ بها الفلاحون نتيجة الزراعات الصيفية وخاصة الشوندر, ما أدى إلى إقلاع الفلاحين عن تلك الزراعات واعتمادهم على زراعة موسم قمح تلو الآخر، كما أن الأراضي لا تُحرث بشكل عميق، وتالياً أصبحت الأرض ضعيفة، عدا عن ارتفاع تكاليف السقاية المروية وكذلك السماد، ورداءة نوع المبيدات الحشرية, كل تلك الأمور أدت إلى تراجع المحصول .

ومن وجهة نظره يرى د.عفيف أنّ الحلول تكون من خلال دعم العملية الإنتاجية عن طريق تخفيض التكاليف من جهة، وزيادة ريعية الإنتاج من جهة ثانية، وبهذه الحالة يستطيع الفلاح أن يزرع القمح, بحيث يوجد عائد مادي جيد له، أمّا في حال لم يتم دعم الفلاح فسوف يؤدي ذلك إلى انهيار القطاع الزراعي بشقيه الحيواني والنباتي.
تجربة السماد البديل
عندما لا تستطيع الجهات والمؤسسات المعنية إيجاد حلول تساعد على زيادة إنتاجية القمح وبنوعية ذات جودة عالية ، لا يبقى حلّ سوى المحاولات الفردية من بعض المزارعين، والاعتماد على أنفسهم من أجل تحسين إنتاجهم نوعاً وكمّاً .
محمد الربداوي (مزارع ) من مدينة طفس في محافظة درعا يروي تجربته عن استخدام سماد الدود بما يسمّى عالمياً الذهب الأسود لغناه بالعناصر الصغرى والكبرى .
يقول محمد: التجربة كانت عن طريق إضافة السماد العضوي ( الفيرمي كومبست ) على التربة مع البذار, حيث أعطت النتيجة زيادة نصف الإنتاج عن الحقل المسمّد بالأسمدة الكيماوية،علماً أن الحقل المسمّد بالعضوي أو (الفيرمي كومبست ) كان مزروعاً بموسمين متتاليين من القمح ، ومن المعروف أنّ هذه الطريقة تفقد القمح عناصره، مؤكداً أنّ الزيادة وصلت إلى 107 كغ للدونم الواحد ، و حالياً يقوم بتجهيز حوالي 50 دونماً لتسميده بالفيرمي كومبست من أجل زراعة محصول القمح ، منوهاً بأنّ تجربة الفيرمي كومبست على محصول القمح كانت في الموسم الماضي، والنتيجة هي زيادة الإنتاج بنسبة 52 % عن الموسم الذي قبله وبجودة ونوعية متميزة مؤشرات التراجع
الدكتور سائر برهوم اختصاص تحليل وتقويم مشاريع ( دراسات الجدوى ) في كلية الزراعة جامعة دمشق يقول : إذا ما نظرنا إلى الواقع الحالي لإنتاج القمح في سورية نجد أنّه خلال العام 2020 بلغت المساحة المزروعة بالقمح 1350538 هكتاراً , حيث أنتجت 2848472 طناً، و بلغت الإنتاجية 2109 كغ للهكتار، بينما المساحة المزروعة عام 2011 كانت 1521038 هكتاراً، أنتجت 3858331 طناً، كذلك وصلت الإنتاجية إلى 2537 كغ للهكتار، إذاً من الملاحظ وجود تراجع بالمؤشرات الإنتاجية والزراعية للقمح ، لافتاً إلى أنّ البلاد تحتاج أكثر من ذلك بكثير, و لذلك فإن الدولة تقوم باستيراد أكثر من 1.5 مليون طن من القمح سنوياً , معظمه من روسيا، بعد أن كانت سورية في أواخر القرن الماضي تمتلك فائضاً يكفيها لمدة عشر سنوات من القمح وتصدّر أيضاً، مؤكداً أن هذا الواقع المتدهور للقمح في سورية ما هو إلّا نتاج تفاعل عدة عوامل مجتمعة, أهمها الظروف المناخية وأيضاً الحرب وتداعياتها المختلفة التي أدت إلى خروج منطقة الجزيرة التي تشكل المصدر الرئيس للقمح السوري عن سيطرة الدولة.
محاولات خجولة

وبيّن د: برهوم أنّ الجهات المعنية حريصة على زيادة إنتاج القمح لما له من أهمية, ليس فقط في تأمين الطلب المحلي بل أيضاً في تحسين الميزان التجاري ، وميزان المدفوعات، لذلك كانت هناك محاولات مختلفة في هذا السياق, من أهمها ما عرف بعام القمح، مشيراً إلى أنه وبطبيعة الحال كانت لتلك المحاولات آثارها الإيجابية إلّا أنّها كانت محدودة جداً, حتى ذهب الكثيرون لوصفها بأنها محاولات لم يحالفها النجاح بأدنى درجاته، وهنا يجب التأكيد على أنّ المحافظة على الواقع الحالي لزراعة القمح في سورية، والحدّ من تدهوره ومن ثم تطويره تحتاج إلى تفاعل مكونات مختلفة من المجتمع , وذلك ضمن إطار وجود قدرة ورغبة حقيقية لذلك ، مؤكداً أنه عند النظر إلى المشكلات التي تعانيها زراعة القمح نجد عزوف العديد من الفلاحين عن زراعته، أو حتّى عدم الالتزام بالتعهد بزراعته , ويرجع بشكل أساسي لعدم وجود ثقة كبيرة بتحقيق عائد اقتصادي مجزٍّ، ولا سيما في ظل ارتفاع أسعار الأسمدة والوقود يوماً بعد يوم، فضلاً عن رفع الدعم مؤخراً عن الأسمدة الكيميائية، وزيادة أسعارها, علماً أنّ تكلفة الهكتار الواحد من الأسمدة بالنسبة للقمح المروي هي أكثر من 150 ألف ليرة، أما بالنسبة للقمح البعل فهي أكثر من 25 ألف ليرة، وهنا لابدّ من التأكيد على ضرورة العمل لإيجاد البدائل ودراستها وتحليها قبل تعميمها والعمل على دعمها والترويج لها.
التوسع الأفقي بزراعة القمح غير مجدٍ
تحفيز المزارعين على زراعة القمح يتطلب تفعيل وتنشيط البحوث المتعلقة بفهم عقلية المزارعين والعمل على تذليل جميع العقبات التي يرونها والالتزام بالتعهدات, كذلك يجب أن يوضع بالحسبان أنّ عمليّة التوسع الأفقي في زراعة القمح لا تعني بأي شكل من الأشكال زراعة كل قطعة من الأرض بالقمح, إذ لابدّ من إجراء الدراسات اللازمة للمقارنة بين مختلف البدائل , فمن غير المجدي مالياً أو اقتصادياً زراعة القمح في كل بقعة من الأرض.. هناك محصول آخر أكثر جدوى لأنه في مثل هذه الحالة ستتم خسارة العائد الذي تمّت التضحية به عند عدم زراعة محصول آخر, فضلاً عن الخسارة من زراعة القمح الأقل جدوى والذي قد يكون خاسراً أيضاً, ولذلك فإن استغلال الموارد لن يكون بالشكل الأمثل وسيحدث هدراً بها .
وختم د: برهوم بالقول : يجب أن تكون الخطوات مدروسة، وبدقة في أي سياق يتم القيام به من أجل إعادة القطاع الزراعي إلى سابق عهده كمكون أساسي من مكونات الاقتصاد الوطني.

 

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار