العالم يستعد لـ«دفن الدولار» .. حقيقة أم مبالغة؟

لا في الإعلام ولا في التصريحات ولا حتى في مؤسسات الرأي والقرار والاقتصاد.. يكاد المرء لا يلمس كثير اهتمام من قبل الولايات المتحدة بكل ذلك الحديث المتصاعد طولاً وعرضاً عن قرب سقوط الدولار عن هرم السيادة المالية العالمية (والعودة إلى معيار الذهب).. فهل هذا اطمئنان إلى قدرتها في كل مرة على إدارة دفة العالم لمصلحتها، وإلى قوة تدابيرها ومخططاتها بمواجهة عالم يتقلب وينقلب ضدها.. واطمئنان إلى أن العالم لا يمكن أن يعود قرناً إلى الوراء ليشتعل من جديد في حرب عالمية أخرى تتوج سيداً غيرها؟

بالمقابل لماذا تبدو الدول التي على ضفة المواجهة مع الولايات المتحدة على ثقة تامة أن عصر الدولار يعيش آخر سنواته، وأن المستقبل لها ولعملاتها، أو على أقل تقدير ستكون عملاتها ضمن العملات العالمية المُسيطرة إلى جانب الدولار في عالم متعدد الأقطاب يتشكل، ويكاد يكتمل.. بمعنى أننا سنكون أمام عالم متعدد العملات والاقطاب  هل هذا ممكن، وماذا عن العودة إلى معيار الذهب؟..

 

*  من الذهب إلى النفط

قبل خمسين عاماً (في عام 1971) أغلق الرئيس الأميركي حينها ريتشارد نيكسون «نافذة الذهب» وفق ما عرف بـ «صدمة نيكسون» حيث قرر فك ارتباط الدولار بالذهب (الدولار الذهبي) كمعيار مالي عالمي فرضته الولايات المتحدة ما بعد الحرب العالمية الثانية (على المنهزمين وعلى حلفائها المنتصرين على السواء) ليس لأنها كانت ضمن المنتصرين فقط بل لأنها خرجت بـ«صفر خسائر» تقريباً على عكس بقية المنتصرين في أوروبا الذين خرجوا من هذه الحرب وهم في حالة انهيار.

إغلاق نافذة الذهب كان خياراً إجبارياً أمام نيكسون للخروج من تداعيات حرب فيتنام الكارثية على الاقتصاد الأميركي، لكن من أحكم فعلياً إغلاق هذه النافذة كانت السعودية عندما وافق ملكها فيصل عام 1974 على تسعير كل الصادرات النفطية لبلاده بالدولار حصراً مقابل استمرار الحماية الأميركية.

ولأن خيار فك ارتباط الدولار بالذهب زاد الطين بلة على الاقتصاد الأميركي، ولأن نيكسون لم يُرد العودة إلى معيار الذهب كان لا بدّ من البحث عن معيار آخر فكان النفط، وحسب ما يُروى فإن إدارة نيكسون تنبهت إلى أهمية النفط العظمى بعد الحظر النفطي الذي فرضه الملك فيصل نفسه على صادرات النفط خلال حرب تشرين عام 1973 لبضعة أيام فقط كانت كفيلة أن تقلب الأوضاع في الغرب رأساً على عقب، فما كان من نيكسون إلا المسارعة إلى الاتفاق مع السعودية أكبر منتج ومصدر للنفط في العالم على أن تبيع نفطها بالدولار فقط .

تبع السعودية في هذا القرار الدول الخليجية المنتجة والمصدرة للنفط (البترول) لتجد بقية دول العالم نفسها مُجبرة على المثل، ليبدأ عصر البترودولار ولتستمر الهيمنة الأميركية بصورة أقوى وأقسى، بل بصورة وحشية مدمرة. وإذا كان يُقال بأن نيكسون قدم أعظم خدمة لبلاده بهذا الاتفاق، فإن الصحيح أكثر هو القول بأن السعودية هي من قدمت هذه الخدمة، لأنها فعلياً هي من أسس لمعيار البترودولار، ولاستمرار الولايات المتحدة قوة عظمى مهيمنة.

بكل الأحوال، كان لا بدّ من ذكر ما سبق لنصل إلى ذلك الحديث الآنف الذكر عن قرب سقوط الدولار كعملة عالمية مُهيمنة والعودة إلى فتح نافذة الذهب من جديد في ظل عقدين من المتغيرات والتقلبات الدولية التي اكتسبت زخماً هائلاً مؤخراً عبر حدثين بارزين؛ الأول الحرب الأوكرانية وقرار روسيا بيع غازها بالروبل، والثاني هو إعلان السعودية أنها لا تمانع بيع نفطها بالروبل الروسي أو باليوان الصيني (بغض النظر هنا عما يُقال أن ذلك هو رسالة سياسية إلى الولايات المتحدة في ظل العلاقات المتوترة منذ انتخاب جو بايدن الذي وعد بتحويل السعودية إلى «دولة منبوذة» على خلفية مقتل جمال خاشقجي عام 2018).

لنتفق هنا على ما يتفق عليه معظم الخبراء الاقتصاديين بأنه لا يمكن العودة إلى معيار الذهب لأن الاقتصاد العالمي بات من التعقيد والضخامة بحيث لا يمكن تغطيته بالذهب المتواجد حالياً داخل البنوك المركزية حول العالم، ولا حتى بالذهب الذي يمكن استخراجه في العقود القادمة، هذا عدا عن أن العودة- في حال تم الاتفاق عليها- تحتاج إلى عقدين أو ثلاثة، وهذه مدة لن تستطيع تحمل تكاليفها اقتصادات الدول التي ستبدأ بالانهيار تباعاً، كما أنه من غير الممكن لدولة واحدة أو بضع دول أن تعود لوحدها، لا بدّ لهذه العودة أن تكون جماعية.. يُضاف إلى ما سبق أن الذهب معيار غير عادل بصورة كارثية بين دول تمتلك الذهب (لناحية المناجم والتعدين) ودول لا تملكه، ولناحية هوس الدول بالاحتفاظ بذهبها والإجراءات التي تتبعها في سبيل ذلك بما يؤدي إلى تقلبات وهزات كبيرة في الاقتصاد سبق وقادت إلى حربين عالميتين خلال القرن الماضي.. ونذكر هنا أن أي دولة لم تعلن حتى الآن رغبتها بالعودة إلى معيار الذهب.

*   معادلة البترودولار

 

يبقى النفط وارتباطه بالدولار (معيار البترودولار) إذا انهار هذا المعيار انهار معه الدولار.. كيف؟

المعادلة بسيطة جداً كما يقدمها الخبراء والمحللون الاقتصاديون وهي كالتالي:

– الدولار (وهو غير مغطى بالذهب) يأخذ قوته المطلقة من النفط لأنه العملة الوحيدة التي يُشترى، وتجارة النفط هي فعلياً التجارة الأكبر في العالم.

– من يملك دولاراً يستطيع الحصول على النفط الذي هو أهم مصادر الطاقة، والعالم لا يستطيع أن يعيش يوماً واحداً من دون نفط ، ولا يمكن لأي دولة أن تحصل عليه إذا لم تدفع ثمنه بالدولار.

– الدول المنتجة للنفط تنتج يومياً ما يُعادل 100 مليون برميل، يقابل هذه الكمية طلب على الدولار يومياً بقيمة 100 مليون دولار.. إذا كان سعر برميل النفط (خام برنت) 120 دولاراً على سبيل المثال هذا يعني أن حجم الطلب على الدولار من أجل النفط فقط سيعادل أكثر من 120 مليار دولار يومياً، أي ما قيمته 4،3 تريليون دولار في العام الواحد. والحديث هنا عن النفط الخام فقط وليس عن الصناعات النفطية اللوجستية مثل النقل والتكرير والتمويل وبقية الصناعات المرتبطة بها لتصل أرقام الطلب على الدولار من أجل صناعة النفط إلى مستويات فلكية.

(الولايات المتحدة حسب أرقام عام 2019 تصدر ما قيمته 1،5 تريليون دولار في العام، ولو كان الطلب على الدولار فقط من أجل المنتجات الأميركية فإن دول العالم لن تطلب الدولار بأكثر من هذا المبلغ، لكن ارتباط النفط بالدولار هو ما يجعل الطلب عليه بأكثر من ثلاثة أضعاف المنتجات الأميركية)..وإذا ما قسّمنا الصادرات الأميركية على عدد الدولار المطبوع ستكون النتيجة: رقم تسبقه فاصلة وعدة أصفار.. وعليه بإمكاننا أن نتخيل كيف سيتدهور الدولار لو انفصل عن النفط .

الآن، ودائماً حسب المحللين والخبراء الاقتصاديين، هذه ليست كل الحكاية.

– أغلب صادرات دول العالم تباع بالدولار، لأن السلعة الأساسية التي تنتج الطاقة تباع بالدولار.. لو تم بيع النفط بغير الدولار ستبيع دول العالم منتجاتها بالعملة التي تجعلها تحصل على النفط، أي عملة الدول المنتجة له، عندها سيفقد الدولار قيمته (90% من قيمته حسب هؤلاء.. أي لن تتجاوز قيمتة 10سنتات) وذلك وفق حِسبة بسيطة جداً يقدمونها: تكلفة طباعة ورقة الدولار 6 سنتات وإذا قدرنا أن قيمة الدولار 10 سنتات فإن القيمة الحقيقية له من دون الطلب العالمي لن تتجاوز 4 سنتات وربما أقل إذا ما ربطنا الدولار بحجم الاقتصاد الأميركي الذي يبلغ 23 تريليون دولار.

– لو هجرت دول العالم الدولار ستنهار قيمته وسيكون حال الولايات المتحدة مثل حال ما يسمى بالعالم الثالث، ليس لأن الاقتصاد الأميركي ضعيف بل لأن كمية الدولارات المطبوعة تفوق حجم الاقتصاد الأميركي بمئات المرات.. من هنا تأتي المعادلة البسيطة جداً والتي مفادها أن قوة الدولار قائمة بشكل أساسي من الطلب العالمي عليه، باعتبار أن كل دول العالم تعمل في خدمته بسبب ارتباط صادراتها به.

… وبالعودة إلى الحدثين البارزين آنفي الذكر، أي الحرب الأوكرانية وقرار روسيا بيع غازها بالروبل ثم إعلان السعودية نيتها المستقبلية بيع نفطها بالروبل واليوان، فإن الولايات المتحدة لا بدّ وأنها توقفت قليلاً لتتحسس رأسها، لكنها في الوقت نفسه لم يساورها قلق شديد حيال القرار الروسي، فهي كانت تتوقعه كرد على سلسلة العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون على روسيا على خلفية الحرب الأوكرانية. كانت الولايات المتحدة مطمئنة إلى أنها بمجرد أن تطلب من السعودية زيادة إنتاج النفط لموازنة العجز الذي سيحدثه القرار الروسي، فإن السعودية لن تتردد في الموافقة، لكن ما حدث هو أن السعودية لم تستجب.

وبما أن السعودية لم توافق على زيادة الإنتاج فهذا يعني أن أي من الدول الخليجية وغيرها من الدول المنتجة للنفط (داخل أو خارج أوبك) لن تفعل، وهذا بالذات ما يشكل مصدر رعب للولايات المتحدة.

مصدر الرعب الآخر للولايات المتحدة أن تنفذ السعودية فعلياً نيتها بيع نفطها بالروبل واليوان، فإذا فعلت ذلك فإن دول عديدة، إن لم نقل كل الدول المنتجة للنفط ومصادر الطاقة، ستحذو حذوها كما حدث قبل خمسين عاماً، خصوصاً أن أكبر الدول المنتجة للنفط خاضعة للعقوبات الأميركية وسيسعدها ويريحها أن تتخلص من هيمنة الدولار المسلط على رقبتها كأقوى سلاح تدمير شامل تستخدمه الولايات المتحدة لتدمير اقتصادات الدول الصاعدة والمنافسة.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار