بقية ضوء الشمس وحمرتها

يرتدي نظارته السوداء التي تخفي الكثير من ملامح وجهه، كأن ثمة قفلاً كبيراً يحكم به إغلاق قلبه ومشاعره.. يمنع نظرات المارة من العبور إلى نوافذ شخصيته.. يجلس بالقرب من باب مرسمه في سوق الصناعات اليدوية.. يبتسم بوجه المارة.. ينظر في وجوهم كأنه يبحث عن وجه ضاع منه في لحظة هاربة من الزمن، لكنه لم يشعر باليأس من العثور على بعضٍ من ملامحه في كل الوجوه التي يقابلها.. وفي كل اللوحات التي يرسمها.. يدعوك للدخول إلى مرسمه وقد يفاجئك بطلب غريب “أريد أن أرسم وجهك لأضيف إلى مجموعتي ولوحاتي وصفاً جديداً أراه أنا فقط بعيني، وتستطيع فرشاتي وألواني وحدها تشكيله..” وقبل أن تستفيق من هذا الطلب المفاجىء يكون قد بدأ برسم الخطوط الأولى على لوحته البيضاء، ولعل فضول ما في داخلك يجعلك تقبل هذا العرض كأنك تريد رؤية وجهك في مرآة جديدة غير تلك التي تنظر إليها قبل خروجك كل يوم من البيت .
انتظرت أن تنتهي اللوحة بفضول الأطفال لاكتشاف شيء جديد، كنت أتساءل كيف سأبدو؟ هل حقاً تستطيع الفرشاة والألوان التقاط ملامح في مناطق مخفية من روحي؟ وهل سأكون في لحظة ما يعتقلها الزمن في لوحة.. الشخص الذي أريد؟.. كانت التجربة جديدة وكانت اللوحة مدهشة.. بريق في العيون السوداء.. وضحكة غامضة تشبه الجوكاندا .. وملامح توحي بألف قصة.. لم أسأل عن ثمن اللوحة.. كنت أتطلع أن أراها معلقة على جدار أثري في متحف دمشق، حيث أقام الفنان معرضاً كبيراً.
أكثر من ستة آلاف لوحة لوجوه من الماضي والحاضر رصدها الفنان التشكيلي السوري الراحل محمد ناجي العبيد لمختلف جوانب ومظاهر الحياة في الأحياء القديمة من المدن أو الأرياف والبوادي باستخدام تقنيات الرسم الزخرفي الفولكلوري والتصوير الشعبي.
وكانت مبادرة طيبة تعيد الى واجهة الفن التشكيلي تجربة فريدة من نوعها عمدت إلى تشكيل التراث السوري من خلال لوحات مزخرفة ووجوه أغلبها أنثوية ذات عيون سوداء تتوكأ على خلفية تشتمل على أشياء مما يستعمله البدو أو سكان القرى، أو على زخارف هندسية وفي الوقت نفسه تحمل رموزاً تحاكي التراث السوري في مكان ما وزمن ما.. إحياء هذا الإرث كان يحتاج إلى مبادرات ثقافية جديدة تضيف إلى قائمة الفنون التشكيلية الحديثة أسلوباً تراثياً كان يميل إلى التكعيبية والرمزية والواقعية بأسلوب أقرب إلى الأعمال الشعبية .
يصف الكثير من النقاد تجربة الفنان العبيد بالمهمة، لأن صاحبها اجتهد كثيراً، وعلّم نفسه بنفسه، وكان مجتهداً، وعمل بإخلاص، إضافة إلى أن لتجربته جماهيرية، ولوحاته تقتنى لأنها قريبة من الناس.
يستحق الفنان الراحل ناجي العبيد أن تعرض تجربته مرات ومرات، فكل ما صوّره من خطوط وألوان كان يعكس نبضاً حقيقياً لا يزال ظله موجوداً في سوق المهن اليدوية.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار