إسماعيل نصرة «يشنشل» اللوحات بالنوافذ والاحتمالات
ربما يكون غريباً أن أتحدث عن بهجة العين عند الحديث عن بعض التجارب التشكيلية، فالعين تنتابها الحيوية ويرتفع لديها منسوب الطاقة، كلما غَزَت شبكيتَها، دلاءُ الألوان المدهشة والخطوط غير المتوقعة. تلك السعاداتُ تبدو نادرةً على قزحياتٍ عانت طويلاً من الألفة، وبدت ساهمةً في مدى الغموض والملامح المُطَلْسَمة.
نحتاج فعلاً ألّا نعثر على التشكيل الغربي وهو يكتسحُ معارض الرسم ويترك بصمته القوية على شخصيات الفنانين وعصارات ألوانهم. في هذا كله، تبدو تجربة الفنان إسماعيل نصرة الذي عرض لوحاته الجديدة مؤخراً في صالة عشتار بدمشق، علامةً فارقة في الرسم السوري، فهذه الأعمال ليست متفردة لا تشبه سواها وحسب، بل تفتح الباب لخصوصية لم يُصبْها التهجين أو الإصابة بمتلازمة الآخرين من الثقافات “البديلة”.
يفتح إسماعيل نصرة في هذا المعرض، باباً جديداً في تجربته، فلا يشقّ عصا الطاعة عليها أو ينسفها من الجذور، بل يهديها آفاقاً جديدة في الشكل والخط واللون. هكذا تبدو شخصياته الشهيرة التي تحضر في أعماله كلها تقريباً، مصرةً على عدم التغيّب عن أعمال اليوم، لكن بحلّة جديدة، أهمها التغيير الذي أحدثه في جغرافيا اللوحة عندما فتح لها نوافذَ و«شَنْشَلها» بالاحتمالات التي أعطت العمل بعداً إضافياً يحثّ المخيلة على غزّ الخطا باتجاه التفكير. ورغم أن إسماعيل مسكونٌ برسم طفوليّ حمله من بلدته النائية سلمية إلى دمشق، إلا أنّ تلك التقنية شبّت عن الطوق، وظهرت البذور وهي تتحول إلى نبتاتٍ ثم أشجار عالية، والفضل في كل ذلك يرجع إلى التربة الخصبة التي لم يغادرها، فالأسوأ عند إسماعيل أن يقطع الجذور ويمضي بلا وجهة، وهو لا يفعلها بالتأكيد. حالة اطمئنان واستقرار تعيشها هذه التجربة على صعيد الأسس، فيما تبدو الأغصان متفتّحةً تنمو نحو الشبابيك.
اختار إسماعيل لفترة طويلة، التعامل مع الخشب القديم، الذي يقال عنه إنه كلما ازداد عمراً، زاد حنيّة وحناناً، تلك النقطة لم تفارق أعماله على القماش، فهو يترك بصمته المختلفة على الخلفيات كي تأخذ دورها في واجهة اللوحة، هكذا فعل بلوحات الحرب عندما مال بها نحو الرمادي، ثم شوهها بالتجاعيد التي تقول إن مأساةً حصلت هنا. حتى الأشخاص الذين يرسمهم بشكل مستمر داخل كل عمل، يبدون أصحاب هوية محددة وموجودين في الواقع، لذلك قلنا إن إسماعيل ينبش في تراثه الخاص ثم يحوله إلى عام. أولئك الأشخاص يشبهوننا ونشاهدهم يومياً في الشارع وربما يكونون أفراداً من أهلنا ومن أحبتنا الذين غابوا!.
لا يميل نصرة إلى الضربات الحادة في اللون والشكل، لكنه في المآلات الأخيرة للعمل، يفعل فعله مثل النصل عندما يترك أثراً لا يمحى في المخيلة. لأجل هذا، قلنا إن خصوصية هذه التجربة تأخذ فرادتها من تغريدها خارج السرب وعدم التشابه مع تجارب أخرى. ولأن إسماعيل لا يركن للشرح الزائد والاستفاضة في شرح اللوحات، يكون على المتابع أن يجرّب ما لديه من مفاتيح كي يدخل إلى العمل. هكذا يقول إسماعيل: إنني أرسم عوضاً عن الكلام، ولو تكلمت كثيراً، لطارت اللوحات من رأسي!.
في الوقت الذي يعاني فيه معظم التشكيل السوري من القضايا والأساليب، بسبب التسويق ومراعاة أذواق الصالات الضخمة وما سمّيناه بـمتلازمة الآخرين وتقليدهم أو التلاشي فيهم، ينهمك نصرة بتلوين أفقه الخاص، ثم يمضي إلى حيث لا يشبه أحداً سوى نفسه. تجربة تضيف إلى الخصوصية السورية من نسغها ومائها وتربتها الشيء الكثير.