الإذلال الاقتصادي البريطاني الكينزي والعنجهية الأمريكية!
يعرف الإذلال لغوياً بأنه الحطّ من الكبرياء، والتقليل من الشأن، والإهانة والخضوع، وقد تجسد هذا اقتصادياً مع العالم الاقتصادي البريطاني الكبير (جون ماينارد كينز) من الإدارة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية، وكان كينز مسكوناً بحبّ بلده وكرهه لكلّ من (النازية الهتلريّة والفاشيّة والسياسة الأمريكية)، وخصص معظم دراساته الاقتصاديّة لتحليل واقع الاقتصاد العالمي وخاصة البريطاني منه، وكان يرنو لكي تستمر بريطانيا في قيادة الاقتصاد العالمي وتجاوز ظاهرة الكساد الكبير خلال سنوات /1929-1939/ وسببت تراجع الاستهلاك وتراكم المنتجات في المستودعات وتراجع دوران حركة الوحدة النقدية الواحدة وزيادة معدل البطالة.. إلخ، وركز على تدخل الدولة ممثلة بالحكومة في الحياة الاقتصادية عن طريق زيادة الإنفاق لتفعيل الطلب الكلي وكأنه يقول إن ّ الأسواق هي ترمومتر أو ميزان حرارة المجتمع الاقتصادية، وكانت رؤاه تبتعد عن الشعبوية ونظراً لاهتمام عالمنا الكبير بالفن والمسرح وبأفكار زوجه راقصة البالية الروسية المشهورة فإنه عبر عن الكثير من إبداعاته الاقتصادية بطرق أدبية فنية، وعبرّ عن ذلك بالمثال التالي [إن شركة إعلامية أعلنت عن مسابقة لاختيار أجمل ستة /6/ وجوه لفتيات ستوضع على غلاف مجلتها الخاصة، وتم تعيين لجنة تحكيم متخصصة، وشارك في المسابقة عدد من الفتيات الإنكليزيات وبعد إعلان النتيجة تبين أن الفتيات الفائزات لم يكنّ هنّ الأجمل حسب رأي الأكثرية من أعضاء اللجنة المختصة بالاختيار، بل كنّ الأجمل حسب رأي الأكثرية من قراء المجلة]، ومن هنا استنتج أن هذا ينطبق على الأوساط الاقتصادية أي إن الإجراءات الاقتصادية قد لا تتطابق مع رغبات صانعيها!، ومن جهة ثانية فإن اتخاذ القرار من صانع القرار قد يكون مرّاً ولكن من الضرورة اتخاذه كما يتم تناول الدواء المرّ من المريض، وبعد ذلك اختيار كينز سنة /1945/ للسفر إلى أمريكا لتأمين قرض لبريطانيا وكانت أمريكا الدولة الأولى في العالم التي تمتلك إمكانية تقديم القروض، واستغرقت مفاوضاته ثلاثة أشهر مليئة بالنزاعات والخلافات، ووافقت الإدارة الأمريكية بعد ذلك على منح بريطانيا قرضاً بقيمة 3.75 مليارات دولار فقط أي بنسبة 54% تقريباً، وهذا سبب تأثيراً سلبياً كبيراً على عالمنا الكبير، وقال كينز بعد ذلك بأنه شعر بالذل الكبير بسبب استجدائه الإدارة الأمريكية للحصول على القرض أو جزء منه، وكان الاقتصاديون الأمريكيون يقصدون إذلاله وأحياناً السخريّة منه في جلساتهم الخاصة وهو يشعر بالضغط النفسي والعصبي الكبير، ولكنه كان يقول إنه لخدمة بلده ابتلع مرارة الذل الشخصي ورغم كل المرارة التي شعر بها خلال تلك المفاوضات والنتيجة المتواضعة إلا أنه بعد عودته إلى لندن توجه إلى مجلس اللوردات وألقى خطاباً بليغاً وأقنع الحكومة البريطانية وهي من حزب العمل بقبول القرض، ووجد الكثير من المؤيدين له خاصة أنه كان يعتبر علم الاقتصاد علماً مهنياً وليس إيديولوجياً رغم أهمية الأيديولوجية فيه وخاصة أنه كان يمثل تياراً وسطاً بين الأجنحة اليسارية واليمينية البريطانية، وأنه اختلف عن الاقتصاديين الكلاسيكيين (جان باتيست ساي ) ومدرسته وانتقد التوازن التلقائي للأسواق ونظريتهم بأن (العرض يخلق طلبه الخاص به) وبرأيه أن هذا القانون يُعَبِر عن رؤية متفائلة، كما انتقد أيضاً أفكار الاقتصادي الكبير (آدم سميث) الذي أكد أن الاقتصاد الحر يتجاوز كل مشاكله ويوازن نفسه بفعل قوى داخلية فيه وعن طريق ما يدعى (اليد الخفية للسوق) أي إن الأسواق تنظم نفسها بنفسها وفقاً لقوى العرض والطلب، ومع تزايد مشاكل بريطانيا الاقتصادية طورّ كينز أبحاثه المعتمدة على تدخل الحكومة دون أن يكون ماركسياً وعلى الحرية الاقتصادية دون أن يكون ليبرالياً مطلقاً على المذهب الاقتصادي الأمريكي، وتؤكد الدراسات أنه غادر الحياة سنة /1946/ وهو يشعر بأن أمريكا خذلته وخذلت حليفتها الأقرب أي بريطانيا، وبعد وفاته ظهر ما يدعى (الكينزيون الجدد) وانتشرت أفكارهم في أوروبا وأمريكا حتى ثمانينيات القرن الماضي، وقلّ تأثيرهم عندما ظهرت المدرسة (النقدية) أي مدرسة شيكاغو، ومن أشهر علمائها (ميلتون فريدمان)، ولكن مع بداية الأزمة المالية العالمية سنة /2008/ عادت الأفكار الكينزية لتنتعش ومن الكثير من الاقتصاديين وخبراء الاقتصاد وراسمي السياسة الاقتصادية العالمية، وخاصة من ناحية تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية والتوجه للملاءمة بين الطلب الكلي والعرض الإجمالي، وكثير من دول العالم ممثلة بحكوماتها حالياً سنة /2021/ وبعد تداعيات “كورونا” والركود الاقتصادي العالمي بدأت تعتمد على الأفكار الكينزية من ضرورة تدخل الدولة من دون إهمال القطاع الخاص وتفعيل الخاص مع عدم إهمال القطاع الحكومي، فهل نلجأ في سورية لذلك لتفعيل دورة النشاط الاقتصادي عن طريق التشاركية بين القطاعين لتفعيل الطلب الكلي والناتج الإجمالي؟ أعتقد أنّ هذا ممكن.