ليس سهلاً أن تكتب من دون بابٍ مغلق! ليس سهلاً أن تواجه ماء الأفكار من دون أن تكون وحيداً تحدّق في صفحته لترى ماذا ستلتقط من ذلك الرجراج، المائج، ليجفّ كالثمرة أو الصلصال حين يشمُّ هواء الصِّياغة النهائية، فمهما كنتَ محترفاً أنت بحاجة لصومعة تعزلك عن «الضجيج», وتترك لك حرية التجوال في «متاهتك» تسلك فيها المفتوح، وتفتش عن مفاتيح المسدود!.
آخذ نفْسي إلى مكتبي حيث النافذة العريضة على شارع خلفي مليء بالأفنية التي خُنقت بالسقوف المستعارة والخزانات المرتجلة، لتوسيع المنازل المكتظة بسكّانها، والشرفات التي اختفت وراء «الشوادر» الكالحة اتّقاءً لعيون الفضوليين، وأنسى رثاء أصص الزهور التي كانت تدلّي عرائشها قبل أن تنقضّ الحرب الإجرامية على كل جميل حولنا، وتزيد اللون الرّمادي في الجدران والشوارع والمداخل والنّفوس، لكنني أرى صوراً جديدة تنزل من الطوابق العليا بسلاسة حريرٍ تداعبه النسائم، الألوانُ: أحمر وأبيض وأسود وأخضر، وما يلبث أطفال الشقاوة الذين كانوا ينهكون الأعصاب أوقاتَ القيلولة، أن يهتفوا بتناغمٍ مع المشهد البصري: أما فيه من كلّ عينٍ سواد؟ ومن دم كلّ شهيدٍ مداد؟, ويواصلون التحاور بأصواتهم العالية، يتداعون إلى «الخيمة» التي يصفها أقصرُهم قامةً بأنها خيمة الوطن حيث المنصّة الخشبية والأعلام والفرقة الموسيقية والقهوة المرّة، ويذهبون ركضاً لكن الهدوء لا يعود، إذ تنطلق من نافذة الطّالب الجامعي المستأجر أغنية صادحة: «سمعت الشمس تهمس همس صباح الخير سورية»، وفي الخيمة التي نُصبت وسط إحدى الساحات كان النّاس الذين عرفتُ أبناء بعضهم من الشهداء حين سوّروا الحيّ بأرواحهم ودمائهم إبّان انتشر التتار بأسلحتهم النارية والبيضاء يحرقون البشر والحجر، وكانت الفتيات والفتية الذين كبروا في الحصار، بملابسهم المتواضعة ومرحهم الأخاذ ينشدون ويرقصون، تحت الصور العالية لعشرات الشهداء الذين وحّدتهم ابتسامة مضيئة على كل الأسارير!.
أستمع إلى الإذاعة، أفتح التلفزيون، أمرُّ على الشّابكة، أفتح المواقع العامة والشخصية، فأجد نفسي في احتفالية مديدة هادرة كالسَّيل العارم لا تفيد معها عزلة ولا انسحاب لأجل أيّ غاية، ولابد من الاستسلام للتيار، يطوف بي الهوينى مع ذكريات سنوات عشر، ما أشبهها بصعود الجلجلة مع الجراح والنزف والدّم والسهام والنبال وقذائف الحقد الكلامي والترويع المعنوي والنفسي وتسميم الماء والرغيف والهواء وتوسيع المقابر، وإذ بهذا كله يُنبت حقولاً راهنة من الأعلام تشبه مروج الجوري وشقائق النعمان، وتبعث الحياة بطاقاتها المذهلة على امتداد الجغرافيا، فلا تترك بيتاً ولا حقلاً ولا ساحة ولا حبّة تراب إلا وينهض لملاقاة الشمس، وعميقاً يصل العطر إلى أنفاسي، ومبهرةً تتخطى الموسيقا سمعي، وسريعاً تنهي الملحمة السورية عجزي عن كتابة مقال في صومعة منعزلة اعتدت عليها في سابق زمان!.