كان «أبو كرم» مضربَ مثلٍ بالضخامة، والقوة البدنية، والشهامة، وإغاثة الملهوفين، والذود عن المستضعفين، لدرجة أن أصدقاءه كانوا يلقبونه بـ«جان فالجان الحارة»، ومن القصص التي يحكونها عنه أنه في إحدى المَرَّات أكل خمساً وعشرين بيضة مسلوقة دفعة واحدة ليربح «الشَّرْط»، ومن ثم ليَسُدَّ به دَينَ ابن حارته لدى (السَّمَّان) الذي صَدَّع رأس الحارة كُلَّها بمظلوميته وخساراته من وراء تلك (الدينة)
وفي «مُشارطةٍ» أخرى تناول خمساً وأربعين فطيرة «لحم بعجين» من القياس الكبير، مع ليترين وربع كولا، كي يدفع إيجار منزل إحدى الأرامل، رادَّاً عنها وعن أولادها الصغار التهديدات المتكررة لصاحب البيت بالطَّرد
وفي ثالثة كَسِبَ الرِّهان بأكل (كيلويين فول باللبن) مع عشرين قرص فلافل، وسدَّد به أجرة صالة الأعراس كهدية لصديقه المُقبل على الزواج، وغيرها الكثير
بالمصُّادفة لمحت «أبا كرم» من بعيد، وبان لي كأنه شخص آخر، صحيح أنه ما زال عريض المنكبين، طويلاً، لكنه بات أنحف بشكلٍ لا يُصدَّق، اقتربت منه مُستفسراً عن حاله، فأجابني: «حالي نخب عاشر»، حاولت أن أُمَوِّه كَدَرَهُ، معيداً إياه إلى تلك الذكريات والحدُّوتات التي تروى عنه، فلمعت دمعة على طرف عينيه المتعبتين، مَسَحَها بكفّه التي ما زالت ضخمةً، قائلاً: «ما عاد الماضي كافياً لإزالة هذه الجبال من التَّعب، وجان فالجان الحارة صار مُنهَكاً حدَّ الإعياء، كيف لا وكيلو الفول بألفين وسبعمئة، بعدما كان بخمس وثلاثين ليرة، وقرص الفلافل بخمسين بعدما كان بليرة، أما كرتونة البيض فصارت بخمسة آلاف ليرة، في حين كنا نشتريها بمئة ليرة، واللحم بعجين لم أذقه منذ سنوات وأخجل من السؤال عن سعر الكيلو منه»، وكي أخرجه قليلاً من تراجيديته القاتلة، قلت له: «أشارطك على ما تريد إن استطعت أن تأكل 35 فطيرة لحم بعجين مع كيلويين لبن»، فأجابني وهو يُكمِل طريقه: «آكلها وآكل الذي خَلَّفها إن كان ذلك كفيلاً بإعادتي إلى ما قبل الحرب»، وتركني بحالي الذي يشبه حاله (نخب عاشر).