عندما تفشّى جنون البقر شبعنا اللحم الأحمر سلقاً وشوياً وقلياً، ومع استشراء أنفلونزا الطيور أُتْخِمننا فراريجاً مشوية ومسحّبة وبروستد، أما الآن مع كورونا اللعين فأضحينا ضحايا مرتين: نموت مرَّةً منه وأخرى من الجوع في زمنه، من دون أن نشبه “الرجل الذي مات مرتين” بشيء، إذ باتت طوابير الموت منتشرةً في كل مكان: في الطرقات وعلى مواقف الباصات وداخل السرافيس وسيارات الأجرة.. عند البقاليات ومحلات السمانة وبسطات الخضرة وفي صالات مؤسسات التجارة وحماية المستهلك المتهالك.. على إطار النافذة الواحدة ومراكز خدمة المواطن بشبكاتها المقطوعة غالباً.. وعند الأقارب والجيران والمعارف.. على طاولات المقاهي وكراسي الانتظار في الكراجات والعيادات الشاملة التي لا تشملنا عيانتها إلا ما نَدَر.. ويترصَّدُنا الفناء في فواتير الهاتف والمياه والإنترنت البطيء وتسعيرات نقابات الأطباء والصيادلة التي لا يلتزم بها أحد.. وعلى صفحات الفيسبوك وقصصه السريعة وفي تغريدات التويتر وضمن نشرات الأخبار الرئيسية ومواجيزها القاتلة.. كما نتلقَّفُه صاغرين في بسكويت الأطفال وأكياس الشيبس وبواري البوظة الملونة.. وأيضاً في أسعار الأدوية والسلع الأساسية غير الكمالية على الإطلاق وآجارات المنازل.. وفي حظِّنا العاثر دائماً حتى في «البطيخ على المَكْسَرْ».. وإمعاناً في الموت وعصَّة القبر فوقه، تتربَّع انقطاعات الكهرباء وضيق النفس والاكتئاب المزمن والهذيانات المريرة وندرة «طاقات الفرج» حتى في فناجين قهوتنا الصباحية.. وفوق كل ذلك ثمَّة أنين الذاكرة الذي يُشعرنا بأن زمن الكورونا لم يكتف بقتلنا فقط، بل هَكَّرَ قلوبنا وأرواحنا، لدرجة بات يصعب معها حتى إعادة ضبط المصنع.