من يتابع العمل الإداري في الجهات العامة هذه الأيام، يدرك تماماً أن هناك أمراً ما يفوق العادة، أو الطريقة التي تدار بها مفاصل العمل، على اختلافها وتنوعها، فهناك يد خفية تعمل لتقف مع أداء الدولة وأجهزتها، في ظل ظروف صعبة تعاني منها، وحالة من الخلل “نتحسسه ونلمسه” بصورة مباشرة، في تأمين أبسط مقومات العمل الإداري والإنتاجي، وحتى ما يرتبط بشؤون الخدمات، نتيجة حرب استخدمت كل الأساليب لتدمير مكونات الدولة الاقتصادية والخدمية، والوصول إلى الخبرات والكفاءات الإدارية والعلمية وخروج معظمها من ميدان العمل الحكومي باتجاه الخاص، والجانب الأخطر هروبها إلى الخارج ووصولها إلى أحضان الكثير من الدول التي افتعلت هذه الحرب على بلدنا.
وهنا المشكلة الأخطر لأنها أحد أهداف هذه الحرب، وحصارها الظالم، بقصد إفراغ المكون البشري من كل خبراته ومؤهلاته وإحداث نوع من الشلل في الأداء الإداري، وهذا ما يظهر في العديد من الجهات العامة، حيث يصعب التغيير فيها لعدم وجود الكفاءة والخبرة البديلة التي فقدناها، بفعل فاعل سواء قبل الأزمة أم خلالها، ولكل حالة أسبابها الخاصة ومبرراتها.
والمشكلة هنا أن الأمر معروف لدى الجميع، والسياسة المتبعة أيضاً في الأداء الإداري، واتباع أسلوب تجاهل الكفاءات من الصفوف الأخرى، ومحاربتها وغالباً ما توضع في “المكاتب والدواوين”، وعدم تدريبها واستثمارها في حالات التغيير، الأمر الذي أوقع العديد من الوزارات والجهات العامة في مطب اختيار إدارات سياسة الأمر الواقع رغم ضعف خبرتها الإدارية والفنية والإنتاجية، وهناك الكثير من الأمثلة، لكن أخطرها القطاع الإنتاجي باعتباره القوة المحركة لقوة الاقتصاد الوطني.
وبالتالي هذا الأمر قلب مفاهيم العمل الوظيفي في معظم الجهات العامة” رأساً على عقب”، واختلفت فيها المعايير الوظيفية المبنية على الحالة الأخلاقية والإنسانية وقبلها القانونية، وتكريس مفاهيم المصلحة الشخصية ترافقها مفردات عمل تخفي خلفها هذا المكون، وتكرس حالة فساد عامة أساءت بكل المقاييس إلى نزاهة الإدارة في مفاصل العمل كلها، وهذا أخطر ما يعانيه مفهوم الوظيفة العامة في هذا الأيام! والأخطر تجاهل هذا الأمر خلال رسم الإستراتيجيات العامة، لا بل تشكل الخطورة الأكبر في هذه الظروف الصعبة، التي تمر بها البلاد وما تعانيه من مشكلات على الصعد كلها، لكن الإدارة هي الأهم، وما نحتاجه اليوم هو إستراتيجيات وخطط فعلية قابلة للترجمة على أرض الواقع، تحمل في جوهرها إعادة ترسيخ المفاهيم الوظيفية الوطنية المبنية على الانتماء الكامل للوطن، وحب العامل للجهة العامة والخاصة المرتبط بها، وخاصة أن الأزمة الحالية أوجدت ترهلاً وظيفياً كبيراً ودخول مفاهيم لا تخدم العملية الإنتاجية والخدمية ليس في القطاعات الحكومية فحسب، بل في القطاع الخاص أيضاً، وبتنفيذ ذلك على أرض الواقع يمكننا القول إننا تجاوزنا مرحلة الخطر على الوظيفة العامة بكل مكوناتها واتجاهاتها، فهل ننتظر ذلك طويلاً؟!
Issa.samy68@gmail.com