لا يحارُ المرء طويلاً في تصنيف ما تقع عليه العينُ أو اليد أو الخاطر! في علوم الطبيعة صنّف العلماءُ بدقة البرّ والماء، ولم يغفِلوا حتى خطوط الطول والعرض، ولا الطقس، ومروا حتى على كل نبتة، فألحقوها بعائلة، وعلى كل حشرة فنسبوها إلى «رتبة»، ولم يتركوا طائراً ذا جناح فوزّعوه بين «أليف» و«داجنٍ» وكاسرٍ.
حتى استراح كلُّ حيٍّ في موطنٍ وصفَة! وكذا ذهَبَ «التصنيف» إلى ألوان البشر: «الأبيض» و« الأسمر» و« الخلاسي» وتكوين شخصياتهم: «انبساطي» و«انطوائي» و «نرجسي» … ومن التصنيف يبدأ البحث الموسّع دائماً لسبر التفاصيل والخصوصية، وقلما يتوه الباحث خارجاً، إذا ما أمسك بهذا التصنيف، حتى في الأعمال الأدبية المفروزة بين رواية وقصة وقصيدة وخاطرة ومسرحية (إذا كان النص طويلاً وُصف برواية قصيرة أو قصة طويلة!)
لسبب مهني طالعت نصاً طويلاً جداً كُتب في بطاقته التعريفية أنه رواية، وربما كُتب هذا التوصيف بخبرةِ من كُلّف بتوزيع المخطوطات، لأنه ليس شعرا،ً وليس مسرحيةً وليس بحثاً، وباعتباره نثراً ضمّه عنوان، وعدّه كاتبُه رواية، فليكن تحت هذا التصنيف الذي لا خيار غيره، أما المحتوى فقد نبا عن فن الرواية رغم أنه مكتظٌّ بالشخصيات، وهي من شروط الرواية، ورغم أن الراوي يطرح نفسه بطلاً أساسياً، وهذا أيضاً من شروط الرواية، لكن الأحداث لم تحتو على حبكة، ولا على صراع بين الشخصيات، وهذا من الشروط الأساسية والجوهرية للبناء الروائي!
إذاً، ماذا كان ما قرأت؟ ولماذا أتممتُه حتى النهاية، رغم أن كل الشخصيات كانت في «جبهة» واحدة، من واقع واحد وحلم واحد تقاوم مناخاً واحد، وتنساق وراء ريحٍ واحدة لتأخذ مركب النجاة بعيداً في عُرض البحر؟ وهل ستوقفني الحيرة في دفعه إلى الطباعة أم رفضِه؟ وفي الواقع لم أفكر قط إلا في «التصنيف» حين دفْعِه إلى الطباعة. هو ليس رواية، لكنه «وثيقة» كُتبت بأمانة وصبر مما يعجز عنه فيلم تسجيلي أو وثائقي طويل، وهو يتناول جانباً من ويلات الحرب التي سيُكتب عنها طويلاً، وربما تضيق رفوف المكتبات الورقية والصوتية والمصورة بكثرةِ تسجيلاتها وكلُّه مهمّ، لأننا في زمن التوثيق بما أتيح له من وسائل بشرية وتكنولوجية، حتى لا يأتي يوم نروي فيه الفظائع بطريقة «قيل» و« يُروى» و «حكت لنا الجدات» عن «سفر برلك» .
تصنيفُ النص من المصدر ليس دقيقاً، لكنه لا يخرجه من حقوق الطبع والنشر والتوزيع باعتباره شهادةً ووثيقةً!