في «القراءة» بابٌ يُفضي إلى بابٍ!
كنتُ بشريطة الكاتب «عبد الله عبد» الخضراء، وهي قصة قصيرة نُشرت ضمن أعماله الكاملة تروي حكاية صبيّة في مقتبل العمر، أحِن عليها الدّهر بصروفه الطارئة فمات الأب العامل في الميناء بحادث، واختفت العمة مع عاشق، وفقدت الصبية رفاهيتها المتمثلة بالجبنة الأجنبية ثم الملابس اللائقة لتنتقل إلى الفاقة والتواري من شدة الفقر تحت بصر الفتى الذي يروي القصة، مفتتحاً أحداثها بعبثه بشَعر الصبية الكثيف، المضموم بشريطة، وهي تجلس على المقعد الدراسي أمام مقعده!
تحمل الأحداث البسيطة التي تسير بتفاصيل القصة إلى طلب المعلّمة العانس القاسية أن ترتدي الفتيات ملابس موحدة ويلتزمْن بشريطة خضراء من أجل استقبال زائر رسميّ هامّ، شحناتٍ هائلة من الوميض الإنساني، لأن الصبية عاجزة عن شراء الشريطة، والفتى سيشتريها حتماً بدافع المروءة الذي هو في الواقع دافع الحب، لكنّ المفاجأة صدّعت كلّ ما بناه حين رآها تخرج خلسةً من دكان القرية العامرة بكل شيء «يباع» وشفتاها محمرّتان وبيدها الشريطة، وكان قبل ذلك قد رأى قطع الجبنة الغالية مخبأة في صندوق كتبها حين طلبت منه أمها أن يبحث عن أوراق أسئلة مطبوعة، وهي مشغولة في المطبخ!
في القصة، بعيداً عن «الشريطة الخضراء» أبعادٌ أخرى مضمَرة، لكنها تستطيع أن تلسع القارئ بجمرها المتوقّد اجتماعياً وطبقياً ونفسياً وأدبياً: حبُّ المراهَقة العاصف، الاحتقار الاجتماعي لكل العائلة حين «تنشزُ» أنثى واحدة منها كما فعلت العمة، كراهية من يعبث بالسّتْر حتى، وهو يؤدي واجبه (وصف المعلمة بالمعقّدة نفسياً والبَوار الاجتماعي والقسوة)، تهاوي الأسرة بعد غياب المُعيل، ثم السقوط السريع أمام الإغراءات المادية (استجابة الصبية لصاحب الدكان، يعطيها القليل ويأخذ منها حياتها برمتها) بينما يواصل الكاتب القبضَ على التفاصيل وتوليفها ببراعة كما يفعل الفتى وهو يعبث بخصلات شعر الفتاة، يلفُّها على أصابعه، ثم يفلته، وهو يتجول في عالمه الداخليّ باحثاً عن نفسه في عالم «الأنثى» الغامض، الجاذب، القدَريّ، لكن الكاتب كان يتجول في كل شؤون الحياة وليس في عالم الأنثى وحدها! كان ذا موقف يبوح بإيديولوجيا: أن صاحب السطوة بالمال أو الموقع يمكنه أن يحطم البراءة الإنسانية ويقوّض الأحلام من دون الالتفات إلى أصحابها (كما فعل مع الفتى) وأن هذا العالم بفرط قسوة «قوانينه» لا يأخذ إلا بالضعفاء كضحايا!
في المبتدأ قلتُ: كنتُ بقصة «عبد الله عبد» وأكمِل: صرتُ في قصص هذا العصر التي لم تعد تحفل إلا بالبعد الذاتي الشبيه بالمذكرات، وقد رفعه النقاد بتسميته «تيار الوعي» وهو يعتمد، في المحصّلة، على البعد الواحد الذي لا يضاهي كتّابَ قصةٍ بُنِيَت بأبعادٍ متعددة لتبقى، ولا تتبدّد كغبار طَلْع في موسم عابر!