الاستثماراتُ «دافئةٌ» أيضاً
أمّا وأنّه لا بقاءَ في هذا العالمِ إلا للأقوياء، فلا بدّ لمَنْ يملكُ المقوّمات من أن يستنهضَها؛ ففي زمنِ «صناعة القوّة» يُمسي من الحكمةِ تلمّس أدوات التوازن والتفوّق والتحرّي عنها.
ولعلّنا في سورية ممن لن يجهدوا كثيراً في ترتيب ما يلزم لصناعة «قوّتهم» بما أن المقوّمات تقدمُ نفسَها بجاذبيةٍ لمَنْ يسعى، فهناك الجغرافيا، والتنوّع، وسلاسلُ الاقتصاد المتكاملة، ثم الشركاءُ الفاعلون، فهنا في هذا البلد يجدُ مصطلحُ «الشراكةِ» مضماراً رحباً لتطبيقات مُجزية في الواقع.
وتبدو الشراكةُ متعددةُ الأوجه بين روسيا وسورية معزّزاً فعّالاً لمكوّنات «صناعة القوة» لكلا الطرفين، على الرغم من عدم تكافؤ الإمكاناتِ، لكنْ علينا أن نعترفَ أن للحسابات الاستراتيجيّة خصوصيّتها ووزنَها النوعيّ الذي لا يُقاس بوحدة الكيلوغرام ولا الطن، بل بأدواتٍ من سياسةٍ واقتصادٍ و جغرافيا .. وللجغرافيا سطوتُها التي لايمكن اكتسابُها مهما ارتقتْ الفتوحاتُ العلميّة والتكنولوجيّة.
أمامَ كلّ كتلةِ المعادلات هذه، نقفُ نحنُ والشريك الروسيّ أمام أفقٍ جديدٍ ومتجدّد..فربما لن يكونَ ما بعد زيارة الرئيس الأسد إلى موسكو كما قبلها، ولاسيما على المستوى الاقتصادي بكلّ تفرّعاته، والاقتصادُ هو الحلقةُ غير المكتملة بعد بين البلدين، على الرغم من أنها بالغةُ الحساسيّة والإلحاح لكلا الطرفين اللذين باتا أمامَ حتميّةِ ترميم ما أتتْ عليه الحربُ والحصارُ ومحاولاتُ العزل ومختلف تجلّيات سعار مناهضة القطبيّة الجديدة، وهي المعاناةُ المشتركةُ التي من شأنها تحفيزُ واستنهاضُ الفرص الخلّاقة وترتيب مشهدٍ متكاملٍ للتعاون الاقتصاديّ في القادمات من الأيام.
فالروزنامةُ الزراعيّة المتكاملة وغيرُ المتماثلة بين البلدين تَعِدُ بحركة تداولٍ سلعيّ رشيقة وبأرقام جديدةٍ لم تصلْها بياناتُ التجارة المشتركة سابقاً.
كما لسعي الروس لاستدراكِ فجوة الصناعة التحويليّة المزمنة ما يلبيه هنا في بيئة الاستثمار السوريّة، وقطاعُ التصنيع الزراعيّ في سورية قادرٌ على استيعاب سلسلة طويلة من التوظيفات الرأسماليّة وبقيمٍ مضافةٍ كفيلةٍ بحسم أيّ جدل بشأن الجدوى الاقتصاديّة، لأن الجدوى مضمونةٌ، ومثلها فرصُ الاستثمارات التكنولوجيّة والتقنيّة والحلول البنكيّة وكلّ متطلبات القطاع المالي الناشئ في سورية.
لعلّنا سنكونُ على موعدٍ مع مجمّعات صناعيّة سوريّة – روسيّة مشتركة، لأن الاعتبارَ الجغرافي لن يغيبَ عن بصيرة الشركات وقطاع الأعمال الروسيّ، بما أن منطقة الشرق الأوسط باتت مقصداً استراتيجيّاً لاستثمارات كُبريات الشركات العالميّة،وقد استطاعت الصينُ مثلاً التقاطَ فرصٍ كبيرة في المنطقة، ولاسيما في إطار مشروع «الحزام والطريق» الذي تمضي فيه بوتائر متسارعة، وتبدو سورية من أهمّ الخيارات الاستثمارية الاستراتيجيّة على الإطلاق بالنسبة للأصدقاء الروس.
يكترثُ الروسُ كثيراً عبر التاريخ لمفهوم «المياه الدافئة»، لكن، كما هي المياهُ السورية دافئةٌ.. كذلك الجغرافيا ، والفُرصُ الاستثماريّة، والإرادةُ السياسيّة والشعبيّة.
ثمّةُ بيئةٌ جاهزةٌ كليّاً لتكون أنموذجاً لتعاونٍ فريدٍ في زمن التكتّلات الذي لا يعترفُ فيه بالضعفاء، ويفسحُ المجال واسعاً لمرور الشركاء في«صناعة القوّة».