ضربةٌ على الظهر
مرةً أخطأني الموت، منحني دقيقةً وخمسة أمتار، ونجاة، ويبدو أنه فعلها ثانيةً صباح الإثنين ، وعلى هذا المنوال سبق أن كان لكلٍّ منا لقاءٌ عابر معه، من دون أن نعي حقاً عدد اللقاءات وكم الحيوات التي مُنحت لنا بلا طلبٍ أو رغبة، لكن للقدر دائماً مشيئته التي لا حيلة لنا أمامها سوى الانصياع والبحث بما يتأتّى لنا عن نجاةٍ نرجو أن تسوقها إرادته.
لكلّ فاجعةٍ إملاءاتها، وما علينا إلّا النهوض أبداً؛ قبل أشهرٍ قليلة كان الوباء، واليوم الزلزال، وقبلهما كانت سنواتٌ أليمة، حتى لا ندري كيف نُرتّب الكوارث، هل نجعل لها فصولاً أم نكتفي بالتوصيفات، هل نضع لها تواريخ أم نعدها على الأصابع، كيف نكتب ما تقوله الصور بالصوت والجسد والدموع، هل من عباراتٍ لها الوقع نفسه، وقع سقفٍ يسقط وجسدٍ يتمزق؟.
الصور والفيديوهات سيلٌ لا يتوقف، ربما لا يحتاج من أمضى ليلةً، ما كان يدري أنها الأخيرة في فراشه وبين عائلته، أن يرى ما عايشه مرة ثانية، الأمر يُشبه سقوطاً مفاجئاً، صفعة أو خيانة، أو ربما ضربةً على الظهر، يقول ناجٍ أمضى يومين وجسده محشورٌ بين كومة حجارة، بأنه سمع والده يناديه عندما بدأ كل شيءٍ يهتز، لكن الصوت اختفى سريعاً، ولسببٍ ما كان يفقد صوته هو الآخر كلما أراد الصراخ.
لو فكّر كلٌ منا بما اختبر من مآسٍ وآلام في الأعوام الأخيرة، لاستحضر الكثير، لكن الأمر مختلفٌ هذه المرة، ليس لأن المُصاب يتوزع مجدداً على طول البلاد، بل لأنّ الواقعة لم تدع لنا وقتاً للتنبؤ أو حتى تخيّل ما يُمكن أن تؤول إليه الأمور، ربما بات لزاماً علينا التهيؤ دائماً لجللٍ يختبئ في زمنٍ ما، كما اعتدنا أن نتهيأ للأعياد.
أيامٌ مرّت على المُصاب، يحكي لنا الخارجون من تحت الأنقاض ما لا يسعنا تخيله، تقول إحداهن «على يميني جثة وعلى يساري جثة، وفوقي جثتان»، تقول أخرى «عطشت وجف حلقي، أمطرتْ… ضحكت، شربتُ القطرات النازلة على حجرٍ قربي»، يقول طفل «خرجت ولم يخرج أبي وأمي.. كان البناء يتداعى فوقنا»، وبينما تقص طفلةٌ من حلب حكاية خروجها وحيدة من بناءٍ كامل، تُمسك بيد خالها، آخر من تبقى من عائلتها، نحن أيضاً سنبقى من أجل بعضنا، وسنشد على أيدينا ما بقينا.. عظّم الله أجركم يا أهلي.