هو أسيرٌ في سجن “النقب”، في جنوب فلسطين، عمق فلسطين، التي حين تُذكر تكون كلاً واحداً بلا جهات، أو جهةً واحدة من دون تسمياتٍ أربعة. إنها فلسطين وكفى! وهذا الأسير اقتيد من إحدى مدنها إلى صحرائها ليجعلوه منقطعاً عن أوردة الحياة تحت لهيب الشمس وعواصف الغبار وتوقُّفِ الفصول، وعرفتُ منه أن السجن خيامٌ قماشية مثل خيام البدو الذين واجهوا الطبيعة الشرسة بما لديهم من الوبر، نسجوه واستظلوا به حتى لا يموتوا من حرارة الشمس وندرة الظل! وحين شرح لي أن الخيام تُحاط بأسوار بيتونية شاهقة يتوزع عليها، للحراسة، أعتى مجرمي التاريخ، عقد لساني عن السؤال: -جعلوا الصحراء مجمّعاً لكل من قال لا في وجههم! وتفرّغوا لقتلنا بالتعذيب والتنكيل والتغييب في بطن الصمت وإسدال الستار علينا حتى نهاية حواشيه وترْكِ المريض يواجه الموت دون طبيب ولا دواء، لكنه كان ليّناً حين وصل إلى يومياته الراهنة: -هنا اجتمعتُ مع رفاقٍ من “جنين” و”عكا” و”يافا” و”القدس” وتقاسمنا الخبز وسهرَ الليالي وترجمة حركة تبديل الحراس على الأسوار البعيدة، وانتظارَ الرسائل النادرة المنقولة بوساطة الصليب الأحمر، وتبادلَ الكتب المهرّبة، واستقبالَ الطيور من نوافذ الزنزانات، وأرسل لي صورة طائر جريح ينام على بطانية وبالكاد ينهض ليأكل فتات الخبز المبلل بالماء، وبحنانٍ يفيض كخيط عسلٍ من جذع شجرة يابسة قال إن هذا الجريح نجا دون شك من بنادق أولئك الذين يُستبدلون على الأسوار لأن الأسرى ما زالوا يناضلون لحيازة فنجانٍ خاص من “الميلامين” وفي مخاوف السجّان أن شظايا الفنجان قد تتحول إلى سلاح، لذلك هو ممنوع!
تلك الأحاديث بيني وبين الأسير كانت عبر وسائل التواصل، نسرق وقتَ توقف التفتيش، والصيدُ العظيم كان الهاتف الجوال الذي سيُكسر ويُدقّ معه عنق صاحبه إما بالعزل الإفرادي أو بالتحقيق المضني الطويل إذا ما عُثر عليه، وقبل أن يغيب عني ولا وسيلة متاحة لتنسُّم أخباره بعدها، أرسل لي مخطوط رواية كتبها في الأسر وكان يتنفس في حروفها وكلماتها هواء البقاء، ولم أندهش حين رأيتها بغلاف جميلٍ في معرض الكتاب في “القاهرة” فمثلُ هؤلاء صناع معجزات مع إشراقة كل شمس! لن أسأله حتى لو عدنا إلى التواصل، كيف خرج المخطوط من وراء تلك الأسوار غير النفوذة وتخطى الحدود ونقاط التفتيش التي لا تسمح لذبابة بالعبور وعيونَ العدو في المعابر وفي المكاتب والاستخبارات والعملاء وأجهزة الرصد، وكلُّها مضبوطٌ بقوانين وضعية توهّم مشرّعُها أنها في خدمته، وغاب عنه أن الأسوار لا توقف الهواء، وأن السدود لا توقف سريان الماء في باطن الأرض بحكم القانون الإلهي وأن القوانين الوضعية لا تنتصر على القوانين الإلهية مهما كانت متشدّدة، وأن صاحب الأرض في عين الله وبه يدوم ويبقى وينتصر!