« مدخنٌ شره وشعره منكوش» عدا عن إنه شخصية مختلفة عما حولها، عُصابية وغير متزنة، وفي أحسن أحوالها مهزوزة وموضع استهزاء من الآخرين واستغرابهم، هكذا بدت صورة الفنان التشكيلي في الدراما، وعلى قلة ظهورها، لم يكن التعاطي معها جاداً ومُنصفاً، كما لم تحظَ حياة النحاتين والرسامين باهتمام حقيقي، يتناول سيرهم الذاتية، وبعضها مغرٍ جداً، فهل ظلمت الدراما التشكيلي وساهمت في نظرة استهجان وريبة غالباً ما يُقابل بها من قبل الجمهور؟، هذا ما توجهنا به إلى التشكيلي الدكتور سائد سلوم والإعلامي الناقد سعد القاسم.
رؤية اجتماعية مُتحفظة
يذهب الناقد سعد القاسم في حديثه لـ «تشرين» إلى أن الدراما العربية كانت إلى حدٍ كبير انعكاساً لرؤية اجتماعية عامة لا تنظر إلى الفن التشكيلي بعين الرضا، وهذه الرؤية الاجتماعية هي أكثر تحفظاً تجاه التيارات التشكيلية الحديثة التي زادت من سعة الهوة، الواسعة أصلاً، بين الفن التشكيلي والمجتمع، وعلى ذلك فإن صورة التشكيلي في الدراما التلفزيونية، وكذلك في السينما، كانت غالباً صورة نمطية مشوّهة تظهره كإنسان غريب الأطوار، وهذا ما رأيناه في أعمال ممثلين كبار تمتلك أعمالهم أوسع انتشار جماهيري، والكلام للقاسم، ففي فيلم (خياط للسيدات) الذي أُنتج عام 1969 بطولة دريد لحام ونهاد قلعي، نشاهد الناقد الفني كجاهل عاجز عن إدراك عمل الفنان، وفي الوقت نفسه لا يتعاطف الفيلم مع الفنان ذاته فينصحه أن يستفيد من موهبته فيما هو أهم من صنع اللوحة، وأن يتجه لتصميم الأزياء النسائية، ضمن إغراق في السخرية من الاتجاهات الفنية الحديثة، وتتكرر السخرية ثانية في المسلسل التلفزيوني (صح النوم) لدريد ونهاد أيضاً والذي أُنتج عام 1972، حيث يقدم في إحدى حلقاته صورة كاريكاتورية للنحات تتضمن رأياً يجد الفن الحديث نتيجة لعجز الفنانين عن محاكاة الواقع، وبعد نحو ربع قرن يظهر مسلسل تلفزيوني يدور موضوعه حول فنان تشكيلي، وهو مسلسل (اللوحة الناقصة) الذي كتبه ممدوح عدوان عن رواية لأجاثا كريستي، وينتمي إلى الأعمال البوليسية لا الكوميدية، ولكنه كان مثلها في تقديمه لصورة الفنان الذي جعله من كبار الفنانين التشكيليين السوريين ويمتلك مزرعة خاصة، وحياة ناجحة، لكنه كان يعاني اضطرابات نفسية بسبب عمله بالفن ونظرته المختلفة للحياة التي تنتهي بمقتله.
الصورة النمطية ذاتها
ويوضّح القاسم أن الحال خارج سورية ليس بأفضل مما هو فيها، فكثير من الأعمال الدرامية التلفزيونية والسينمائية المصرية – على سبيل المثال – قدمت الصورة النمطية ذاتها أو ما هو أسوأ منها بكثير، يتابع الناقد: في فيلم (رغبات) الذي عُرض عام 1994 تلتقي بطلة الفيلم في أحد المعارض بفنان تشكيلي وتجد أنه فارسها الذي تراه في أحلامها، فتنجذب إليه، وتذهب لتعيش معه في قصره المنعزل، لتكتشف أنها قد انضمت إلى عالم الدعارة، وأن الفنان التشكيلي الأنيق اللطيف هو رئيس هذه العصابة، بالطبع لم تمر جميع الأعمال الدرامية من دون ردود فعل من التشكيليين، فقبل بضعة أشهر أثار المسلسل المصري (رجالة البيت) ردود فعل غاضبة بينهم، وطالبوا نقابة المهن التمثيلية بالاعتذار، مُعتبرين أن المسلسل يستخفّ بطبيعة الممارسة الفنية، ويوجّه إهانة إلى التشكيليين، واستجابت نقابة المهن التمثيلية وقدّمت اعتذاراً رسمياً. وتدور أحداث المسلسل حول فنان تشكيلي يبحث عن فرصته، وقد أثار الغضب مشهد له وهو يعرض أعماله داخل إحدى القاعات ضمن معرض جماعي، حيث بدا مُستهيناً بأعماله إلى حدّ موافقته على بيع إحدى لوحاته لأحد المُشترين بثمن زهيد، كي يستعملها المشتري بدل مناشف المرحاض التي نفدت!.
ويلفت القاسم إلى أن شيئاً مشابهاً حصل في سورية أثناء عرض مسلسل (ألوان تحترق) عام 1998، حيث اعترضت نقابة الفنون الجميلة على المسلسل الذي يحكي عن فنان تشكيلي مغمور تضطره ظروفه المادية لرسم لوحات مقابل أجر زهيد لفنانة ثرية مبتدئة لتعرضها باسمها، ومع إن المسلسل كان من النوع الكوميدي فإن إدارة التلفزيون عرضت الأمر على إعلاميين من الوسط التشكيلي لإبداء الرأي، فكان رأيهم أن لا مبرر للاعتراض لأن مثل هذا الأمر يحصل في الواقع فعلاً!.
اغتراب الفن والفنان
يؤيد د. سلوم ما بدأنا به، ويضيف لـ «تشرين»: إنّ الدراما منذ عقود تقدم الفنان التشكيلي غريب الأطوار، بعيداً عن الوعي العام للجمهور، تغلب عليه سمات غرائبية هي خليط بين المثالية والوجودية، ومزيج خيالي مركب من نقيضين، هكذا ظهرت شخصيته وكأنها في حالة متقلبة بين المحسوس والمعقول، غير قابلة للفهم، الأمر الذي انعكس أيضاً على فهم الفنان التشكيلي لذاته، أما ما زاد هذه الصورة السلبية هو أنها مُثلِّت في أفلام ومسلسلات جماهيرية شعبية شارك فيها فنانون كبار أمثال دريد لحام وياسر العظمة وآخرون.
ويرى سلوم أن القصد الدرامي فيما قُدِم كان كوميدياً بالدرجة الأولى، وهو ما ينسحب على شخصيات مختلفة في المجتمع بالطريقة نفسها أو ما شابهها إلا أن فنون الحداثة جعلت الفن التشكيلي غريباً في مفاهيمه الجمالية عن عامة الجمهور فأصبح الفنان يرى ما لا يراه العامة من جمال الشكل – الجميل بذاته ولذاته – إلى جمال اللون الرمزي والاصطلاحي، الشكل واللون المُتخيل، والخارج على مفهوم الطبيعة والمحاكاة التقليدية، كل ذلك جعل الفن والفنان غريبين ومغتربين في المجتمع، فكانت الدراما هي المرآة التي عكست هذا الاغتراب في صورة ضبابية مُشوهة، المرآة التي رأى الجمهور صورة الفنان التشكيلي من خلالها.