ليلى نصير…ما يَسهلُ الحديث عنه ويَصعبُ التفكير فيه
تشرين- لبنى شاكر:
الغربة ثم الغربة بامتدادها، هي ما حاصرها طويلاً، قبل أن يصبح لها كما قالت قرنا ثور، تنهش بهما طعم الملوحة. وحدها ليلى نصير 1941-2023، خاضت مشواراً يسهل الحديث عنه، ويصعب التفكير فيه، فحين بدأت في ستينيات القرن الماضي، لم يكن متاحاً للمرأة في الوطن العربي عموماً فعل الكثير، لكن يبدو أن ما في داخلها كان أكثر قوة وتصميماً ليجعل منها ذاتها الحاضرة محلياً وعربياً.
في القاهرة
بدأت الفنانة مشوارها الحافل من معطياتٍ وبوحٍ داخلي، تبعهما دراسة أكاديمية في القاهرة، استفادت خلالها من كبار الفنانين المصريين أمثال (حسين بيكار، يوسف فرنسيس، عبد الهادي جزار، صلاح عبد الكريم) وغيرهم من الذين كان لهم تأثير كبير في اتجاهها الفني. ومن ثم فإن ذلك الانفتاح على أساليب وأشكال تعبيرية خاصة وعريقة، أضاف إلى ما تحتويه ذاكرة الفنانة وثقافتها البصرية، كثيراً من المعارف والمفاهيم البصرية المتنوعة، التي كانت سائدة آنذاك في أروقة كلية الفنون الجميلة في القاهرة بفضاءاتها الرحبة والمنفتحة على أشكال الثقافة الأوروبية وفنون الاستشراق، إضافة إلى الصرامة ووضوح أسلوب ومفردات الفن الفرعوني القديم والإغريقي بشكل عام.
رسمت نصير المكفوفين، وزارت مراكز التأهيل، وسجّلت مُشاهدتها في دراسات تحوّلت فيما بعد إلى لوحات
أول امتحان
كان أول امتحان واجهته نصير، عودتها إلى دمشق، فلم يكن لديها حتى مكان لترسم فيه، عدا عن أنه لم يكن مقبولاً استئجار المرأة مكاناً للعمل، لذا توجّب عليها رفض ذلك في فترة كانت الحركة التشكيلية السورية تعيش أفضل حالات انتعاشها بداية الستينيات، لأسباب كثيرة اجتمعت وشكلت نهضة فنية، فاستطاعت بما تملكه من المعرفة التقنية والثقافة الفنية أن تواكب هذه الفورة، وتكون واحدة من الفاعلين فيها، ورغم كل الظروف القاسية التي مرت عليها حافظت على مستوى عملها الفني تشكيلياً وتقنياً، والذي يعكس شخصيتها وما في داخلها، من صدق وقلق عميقين حتى أصبحت غالباً ما تشبه شخصيتها التي تجسدها كثيراً في لوحاتها، تقول نصير: «كنت أرسم الوجوه المختلفة في التعبير، كم هي متعبة وتشبه وجهي».
حداثة واعية
آمنت الفنانة أن المبدع مُقومات، وهي عديدة بالنسبة لها، بدءاً من الأسرة التي وقفت بجانبها ودعمتها، يوم كانت الفتيات لا يغادرن بيوتهن، تقول «والدتي كانت تحب الأدب، فقربتني كثيراً منه، وأذكر أنني كتبت قصة رومانسية تمثل حالة إقطاعية وكان عمري 14 عاماً، إضافة إلى أنني أمضيت طفولتي مع الفقراء والفلاحين في الريف السوري، كان يلفتني أنهم حفاة في حين أنني ألبس حذاء، هذه الصور من الذاكرة لا يمكن أن تُمحى، لكن المحرض الأساس هو ما قرأته عن كبار الفنانين ومنهم «مايكل أنجلو»، لاحقاً أردت أن أتعلم الفن».
خاضت الفنانة تجربةً متفردةً من خلال معايشةٍ حيةٍ وحقيقيةٍ لحالاتٍ من ذوي الاحتياجات الخاصة
هكذا أصبحت ليلى نصير، اسماً بارزاً في الحركة التشكيلية العربية والسورية المعاصرة، بخصوصية وتفرد تجربتها، من خلال حداثة واعية اشتغلت عليها وحققت فيها نقلات لافتة على صعيد التعبيرية التي طغت على معظم أسلوبها مروراً بالرومانسية والواقعية وبعض النحت اللافت في تجربتها الفنية، إضافة إلى اهتمامها بالشعر والقصة.
موضوعة الإنسان
كانت مخلصة دائماً لموضوعها عن «الإنسان» مع اختلاف معاناته وخصوصية كل حالة حيث شكّل لها هاجساً فائضاً من الحالات التي تُظهر الأشخاص وإحباطاتهم نتيجة الظروف المأسوية التي تحيط بهم في كل مجتمع، فرسمت المرأة صاحبة الحظ الأكبر من المعاناة، وتنقلت بين مواضيع مختلفة منها فييتنام والعنصرية والصراعات الدولية واعتداءات «إسرائيل» على لبنان، وفي ذلك كله كانت تحكي للآخرين عن سورية كبلد تأسس على المعرفة.
استفادت أيضاً من المدارس الحديثة بما فيها التجريد لإغناء تجربتها وتأكيد خصوصيتها معاً، من خلال توظيف قيمها وواقعيتها الجديدة في خلفية المشهد الذي غالباً ما تضمن عناصر وأشكالاً أقرب إلى ما تألفه العين، وتُجيد قراءته من دون جهد إضافي، ليظهر ذلك في العيون أو ما خلفها، وأحياناً في شكل الأصابع وحركة الأيدي، وكانت للخط أهمية في لوحاتها بقوة تأثيره ومعانيه، كما واكبت من خلال إنتاجها كل أنماط الحداثة التشكيلية بما تمتاز به صياغتها من حيوية وانفتاح على مختلف الاتجاهات والمدارس.
“أمضيتُ طفولتي مع الفقراء والفلاحين في الريف السوري، كان يلفتني أنهم حفاة في حين أنني ألبس حذاء”
الفن قضية
في بداية الثمانينيات خاضت الفنانة تجربة متفردة من خلال معايشة حية وحقيقية لحالات من ذوي الاحتياجات الخاصة، رغبة منها في التعبير عن شرائح المجتمع المختلفة، فرسمت المكفوفين، وزارت مراكز التأهيل، وسجلت مُشاهدتها في دراسات تحولت فيما بعد إلى لوحات، ويبدو أنها كانت تبحث عن محرض لتصل إلى أقصى حالات التعبير، وفي رأيها أنها كلما صدقت مع اللوحة، كانت أكثر
قدرةً على تجاوز الواقع بما فيه من ولادة وموت.
تعلمت نصير عبر سنواتٍ حافلةٍ بالمواجهة أن الفن قضية وليس وسيلة، وهو دلالة على التطور والمحبة، وما يجب أن تكون عليه علاقاتنا كبشر، حيث يصبح الحوار خبزنا اليومي، لأن ما نعيشه من حروب وتوتر، يعود بالعالم أجمع إلى سنوات التخلف، وإن كان الظاهر التقني يوحي بالتقدم؛ هذا كله شغلها، إذ إن همها كان الإنسان قبل أي شيءٍ آخر.