ملتقيات النحت في سورية.. مضيعةٌ للوقت أم تعميمٌ لثقافة تذوّقِ الجَمَال؟!
تشرين- جواد ديوب:
ازدهرت معارض الفن التشكيلي السوري في السنوات الأخيرة (رسماً، نحتاً، وعروض تجهيز في الفراغ والهواء الطلق، وغيرها) وازداد الاهتمام بإقامة ملتقيات نحت تستمر على مدى أسابيع يكون نتاجها منحوتاتٍ متنوعة بين تماثيل شامخة في ساحات العرض أو “رولييفاتٍ” جدارية تُحوِّل الجدرانَ المصمتة إلى تجسيداتٍ شبه ناطقة.
لكن ماذا عن أهمية إقامة هذه الملتقيات داخل سورية؟ وكيفَ يمكن للفن/النحت تحديداً وهو فنٌّ “نخبوي” أنْ يُنمّي ذائقةَ الناس على اختلاف شرائحها؟
“تشرين” سألت عدداً من النحاتين المميزين، خاصةً بعد مشاركتهم مؤخراً في ملتقى “جونادا” على الساحل السوري، فقال لنا الفنان أكثم عبد الحميد (وهو من أهم النحاتين الذين نظّموا ملتقيات نحتية داخل وخارج سورية وشارك فيها بمنحوتاته أيضاً): “ساعدتْ ملتقيات النحت في الهواء الطلق على نشر الثقافة والذائقة الجمالية من خلال الزيارات المتكررة للناس وهم يراقبون تطور الكتل الحجرية تأخذ شكلها النهائي بين يدي الفنانين، أي يشاهدون كيف يُصنع التمثال، فبعضهم لم يتعرفوا على صنع التماثيل إلا من خلال زيارة المتاحف أو البرامج التلفزيونية أو بعض المجلات الفنية المتخصصة، أما عن كيفية تطور الكتلة الحجرية والمعدنية لتأخذ شكلها النهائي فهذا لم يشاهدونه بشكل حيّ مباشر، مع إمكانية أن يلامسوا بأصابعهم -هم وأطفالُهم- تلكَ الكتل الصخرية وسطوحها وتشكيلاتها المتنوعة”.
كان فنُّ النحت مهملاً!
النحات أكثم عبد الحميد يضيءُ لنا قليلاً على جانبٍ تاريخيٍّ من المسألة ويقول: “في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي كنا نرى المنحوتات في سورية مهملةً تقريباً إلا بعض التماثيل المركونة في زوايا شبه ميتة للصالات أو البيوتات الفخمة، بينما كانت الواجهة لفن الرسم، ونحنُ نعلم “أن اللونَ يسرقُ الرؤيةَ من الكتلة”، لذلك كانت أغلبُ أعمال الفنانين الأوائل من الطين أو الجبصين وبنسبة أقل من البرونز أو الخشب أو الحجر… إذاً هذه الملتقيات النحتية نشّطت أيضاً الثقافةَ التقنية لدى الفنانين الشباب وجعلتهم يواجهون كتلاً حجرية ميدانياً، وساعدتهم على فهم التطورات التقنية للكتلة من خلال التعرف على الأدوات الحديثة في إزالة الزوائد الضخمة للوصول إلى الحجم المناسب الذي يريده الفنان كما شكله في الماكيت المسبق، كما جعلت النحاتين الشباب يتعاملون مع خامات جديدة منها الغرانيت أو الحجر أو البازلت أو الرخام، لأن أغلب دراساتهم الأكاديمية كانت على مواد لينة وبسيطة مثل الجبصين أو الطين… مرة أخرى إذاً هذه الملتقيات النحتية نهضت ورفعت من قيمة فن النحت لأن المنتج الإبداعي زيّن الحدائق والساحات ونشر الجمال في كل مكان، وكلما ازدادت الأعمال الفنية المنتشرة في الأماكن العامة؛ كلما دلّ ذلك على الرقي الحضاري النبيل للبلد الذي أنت فيه”.
أما النحات علي سليمان والذي يَعدُّ النحتَ وسيلةً نقلت لنا حكايات الشعوب، ويشكل النحتُ شغفَه وأداتَه الرئيسية للتعبير عن أفكاره ومواقفه تجاه الحاضر واستشراف المستقبل، يقول لـ “تشرين”: “إن مشاركاتي في ملتقيات النحت تنبع دائماً من رغبتي في تسجيل ما أطمح أن أقوله، وقد شاركت حتى الآن بأكثر من عشرين ملتقى للنحت على الحجر والخشب بالهواء الطلق، وأقمت من خلال نشاطات “مهرجان السنديان الثقافي” خمس ملتقيات للنحت على الحجر، هناك في قرية صغيرة وعلى ربوعها وإلى جوار نبعها تتوضّع ٣٥ منحوتة يزورها جميعُ محبي الفن منذ عام ٢٠٠٣ وحتى عام ٢٠٠٩ أُنجِزت تلك المنحوتات من قبل نحاتين سوريين مبتدأين وأساتذة، تفاعلوا مع بعضهم البعض ضمن حالةٍ إبداعية للفنان نفسه، وحالةِ تربيةٍ جماليةٍ للمشاهد، فوجود المنحوتة في مكان عام يُحفّزُ على صنع الجمال ويبعد الناس عن البشاعة”.
الفنُّ هروبٌ من الواقع المؤلم!
ورغم أن النحات حسام نصرة يرى في الفنُّ عموماً مؤشراً مهماً لحضارة أيّ أمّة، إلا أنه برأيه “يمكن أن يكونَ أداة للهروب من الواقع المؤلم الذي لا يرقى إلى أحلام الفنان ورغباته الخاصة، ناهيك عن حساسية الفنان العالية تجاه المشكلات وما يدور حوله في مجتمعه، لكن الحروب والأزمات والكوارث تأتي كمادة مهمة جداً، تُحرّك مشاعر الفنان الأعمق وتحرّض جميعَ مدركاته السابقة، فيبدع أعماله مِن وحي اختلاجاته الروحية وتأثره النفسي بما يجري، مُكوِّناً خلاصةً تمتزجُ فيها القيمة الإنسانية بالجمالية، يقول من خلالها ارتباطَه بالأرض، بقيمِ الحب والحق، بل ليقول: إنَّ الإنسانَ بما يحمل من حبٍّ وإبداع، ورغم تلك الحروب؛ قادرٌ على البداية من جديد دائماً.
إذاً ومن منطق التأكيد على الاستمرارية -يوضح النحات نصرة- أن “مشاركته في الملتقيات داخل بلدي سورية هي رسالةٌ فيها الكثير من الإصرار على العطاء لأن الفنان ابن بيئته، تؤثر فيه، وهو بفنّه يعاودُ التأثير فيها عبر تراكماتِ كلِّ ما سبق وبنوع من التجلّي”.
كما أن النحات غاندي خضر (مدير المعهد التقاني للفنون التطبيقية) والذي يرى أن النحت هو كل شيء بالنسبة له، هو مصدر الطاقة في أيامه، بل هو الحياة نفسُها، يتحدث لنا عن أن مشاركاته في الملتقيات “هي فرصةٌ لِلقاءِ أصدقائه النحاتين السوريين والتفاعل مع تجاربهم الغنية وثقافاتهم المتنوعة، خاصة أنهم لا يجتمعون على مستوى البلد إلا مرة في العام، بالإضافة إلى أن التواصل مع جمهورٍ يشاهد مراحلَ صنع المنحوتات من البداية للنهاية هو أمرٌ مهمٌ جداً للطرفين”.
إلهامٌ أم تقيّدٌ بمواضيع الملتقيات!
توسعنا قليلاً راغبين بمعرفة كيفية اختيار النحاتين الضيوف لفكرة منحوتاتهم، هل يشتغلونها لتتناسبَ مع مواضيع محددة في الملتقيات أم تخطر على بالهم كنوعٍ من الإلهام؟
يجيبنا النحات غاندي خضر بأنّ “لكلِّ نحات شخصية أو هوية مميزة لا يبتعد عنها مهما تنوعت تجاربه، لكن أحياناً أحاول أن أوفّق بين ما تطلبُه الجهة الخاصة الراعية للملتقى وبين رؤيتي للعمل الفني، فمثلاً في “ملتقى جونادا” الأخير في طرطوس عملتُ ضمن فلسفتي الدائمة عن فن النحت (كتلة، فراغ، ظلّ، ونور) لكن وبسبب القرب من البحر وتأثيره العظيم علينا وتفاعلنا معه اشتغلتُ هناك على فكرة الحصان البحري، أن أجمع بين حصان البحر وحصان البرّ ضمن كتلة انسيابية تعبر عن الجموح والأصالة، أما عن الوحي في الفن فأقول إن الفنان عموماً هو مجموعة لا متناهية من المشاهدات التي تترسخ في اللاوعي. أشاهدُ التكوينات، انفعالاتِ الناس وعواطفَهم، انفعالاتِ الطبيعة… كلها تخزن في الذاكرة البصرية للفنان وعندما يباشر عمله تنبثق أفكاره من تلك البوتقة المعقدة ويطرحها ضمن رؤياه الخاصة.”
فيما يستعيد علي سليمان: “كيف يبدأ مرحلة الرسم والماكينات المناسبة للحجر الموجود في البيئة التي يقام فيها الملتقى، وكيف تتنوع الموضوعات والأفكار من ثم يستقر الفنان على فكرة يسجلها بانتظار تنفيذها أثناء يومياته في الملتقى، فتكون الفكرة كأنها وحيٌ وإلهام”.
لكن الفنان حسام نصرة يعتقد أنه “لا يمكن للفنان تحديدَ أو تقييدَ رغباتِه واختياراتِه لتتناسب مع موضوعٍ ما، لأن مشاعرَهُ ودرجةَ التأثر بالمحيط ومزاجَه الشخصي والمزاجَ العام هي كلها عواملُ مؤثرة في اختيار مواضيعه النحتية وأفكاره الفنية، طبعاً من دون الخوض بأدواته التقنية أو “تكنيك” النحات في خلق عمله الفني”.
انكسارُ الإنسان غير مقبول!
نعودُ إلى الفنان أكثم عبد الحميد لنختم استطلاعنا ونسأله: بماذا تردّ على من يقول: إنّ الفنَّ زمنَ الحرب هو مضيعةٌ للوقت والجهد؟
يجيبنا بنبرة الواثق: “لا يتوقف عن الإبداع أو النشاط الثقافي أو أي عمل يتعلق بدورة الحياة الإنسانية إلا النفوسُ الضعيفة المهزوزة والمهزومة، ومَنْ هو فاقدٌ للثقة بنفسه وبوطنه، وأصلاً إن العدوّ يريد لنا الخوف والانكسار والتوقف عن العمل والإبداع ليصبح هذا الوطن فاشلاً وخاسراً، لذلك يجبُ على الجميع ألّا يتوقفوا عن العمل والإنتاج الفني والغذائي والصناعي…إلخ لأن ذلك جزء من معركة الحياة نفسها، فالمعركة ليست بندقية ودبابة فقط، كلٌّ مِنّا باستمراره في موقعه هو سنَدٌ لبقاء المقاومة في معركتها المصيرية ضد أعداء سورية، فمهما كان الدمار كبيراً؛ سيُعادُ بناؤُه، أمّا انكسارُ الإنسان فهذا هو الأصعبُ والأكثرُ إيلاماً وخسراناً… وهذا غير مقبول.