حرب تشرين التحريرية و51 عاماً بين ثابت ومتحول.. الميدان المفتوح والتاريخ الذي لم يَعُد ‌‏«أقرب إلى أن يعيد نفسه» بل أقرب إلى أن يكتب كلمته الأخيرة

تشرين – مها سلطان:

لسنا متشائمين.. لم نفقد الثقة.. لن يغزونا يأس ولن تحتلنا هزيمة..‏

لسنا متشائمين بالطريقة التي يريدها العدو، لن نفقد الثقة وإن كان في أعماقنا بعض وجل، ‏وغصّة تخنق أنفاسنا لحجم الفقد وخسارة سادة المقاومين وأشجع المقاتلين ونحن الذين كان بيننا ‏وبينهم- على مساحة الوطن- وحدة قلب وروح وهدف.. لن ينقص إيماننا وإن بلغ حصار الدم ‏أقصاه، في منتصف المعركة لاخيار باتجاه الهزيمة، العدو لم ينتصر ونحن لم ننهزم، فما زال ‏للميدان حساباته ومعادلاته، «بعدنا طيبين.. قولوا الله» يقولها سيد المقاومين الشهيد حسن نصر ‏الله.‏

«بعدنا طيبين.. قولوا الله» يقولها سيد المقاومين ونقولها من بعده.. العدو لم ينتصر ونحن لم ‏ننهزم فمازال للميدان حساباته ومعادلاته

المعركة لم تعد معركة غزة ولبنان بل معركة منطقة ومعركة «عالم» يدور حولها، لم تعد ‏الحرب حرباً إسرائيلية على غزة ولبنان بل حرب أميركية ستمتد نيرانها وترتفع، وهي ليست ‏كما الحرب الأميركية على العراق في عام 2003 وقبلها أفغانستان في عام 2001. ستكون ‏حرب الضربات الشاملة/التدمير الشامل، ضد ساحات (ودول). ضربات تمهد الطريق أمام ‏الكيان الإسرائيلي. القرار مُتخذ، كما يبدو، أيام معدودة ونشهد التنفيذ (وربما بدأ)، أميركا ترى ‏أن الأحداث وصلت إلى نقطة فصل ولا بد من التحرك باتجاه الحسم ولن يكون هناك خطوط ‏حمر ، وإذا ما كان القرار مُتخذاً فإن على الطرف المقابل اتخاذ قرار مقابل، الوقت لم يعد في ‏خدمة أحد. ‏

رغم ذروة الوحشية التي يعتمدها العدو ضد غزة ولبنان إلا أن الأميركي لايبدو واثقاً لذلك لا ‏بد من توسيع الجغرافيا لكتابة تاريخ جديد يدفن تاريخ «تشرين 1973 و2024»‏

بعد عام بالتمام

قبل عام بالتمام، في مثل هذا اليوم، عندما أتمت حرب تشرين التحريرية نصف قرن من ‏الزمان، وحيث كان العدو الإسرائيلي، ومن خلفه الأميركي، على اطمئنان أنه أغرق المنطقة ‏بما يكفي من حروب واضطرابات حتى لا تكون هناك حرب تشرين ثانية.. قبل عام بالتمام ‏وفي مثل هذا اليوم كتبنا هنا في صحيفة «تشرين» أن «التاريخ أقرب إلى أن يعيد نفسه».. ‏وكان أقرب مما كتبنا. لم يكمل اليوم التالي ساعاته الـ24 حتى اندفع «طوفان الأقصى». ‏

وكتبنا أن «حرب تشرين التحريرية لن تتكرر، ليس لأن الولايات المتحدة أرادت ذلك أو أنها ‏نجحت في منع تكرارها، كما أنه ليس بالضرورة أن تتكرر بالصورة نفسها، فلكل مرحلة ‏معاركها وميادينها وقادتها» وهذا ما أثبتته أحداث عام مضى، وصولاً إلى هذه المرحلة وهي ‏الأخطر على المنطقة جميعها وليس فقط على محور المقاومة كما يتوهم البعض، شامتاً ناعقاً.  ‏

لأن ساعات قليلة فصلت بين ذكرى تشرين الـ50 و«طوفان الأقصى» كان مفهوماً الربط ‏بينهما رغم أن مسار الميدان وصل ذروته وجعلهما يفترقان زماناً وجغرافياً ‏

وكتبنا أنه في الأيام القليلة ما قبل احتفائنا بذكرى نصف قرن على حرب تشرين التحريرية، ‏كان العدو الإسرائيلي يستشعر «تحركاً» ويتأهب على وقع «هجوم» يترقبه دون أن يعرف ‏ساعة «صفره» ويدرك أن أي هجوم /حرب/ إذا ما وقع فسيكون حرب مصير ووجود، لذلك ‏وصل بتهديداته إلى حدها الأقصى «باستخدام القوة الكاملة»، وهو استخدمها بالفعل، مدججاً ‏بأطنان من الأسلحة والأموال، ومن الحماية الأميركية داخل المنظمات الدولية.‏

ولأن ساعات قليلة فقط فصلت بين ذكرى حرب تشرين التحريرية وبين عملية طوفان ‏الأقصى، تمت مقارنتها وربطها بصورة مباشرة بحرب تشرين التحريرية، لظروف كثيرة ‏وأسباب تقاطعت خصوصاً لناحية عامل المباغتة والتخطيط والتنفيذ، لتعود كوابيس تشرين ‏وتغرق كيان الاحتلال الإسرائيلي في صدمة نفسية ومعنوية هزت أركانه وزعزعت قواعد ‏اطمئنانه لمسار تطبيعي وضعه في «حالة أمان عربي» إذا جاز لنا التعبير.‏

الربط والمقارنة استمرا رغم أن مسار الأحداث وصل ذروته، وبما جعلهما يفترقان- زماناً ‏وجغرافيا ووضع عربي/إقليمي- ليغدو ما هو مُدبر أكبر وأشمل وأخطر.. وليغدو التاريخ ‏أقرب إلى أن يقول كلمته الأخيرة.

المعادلة لم تتغير ومازالت فاعلة.. حرب تشرين نقطة تحول تاريخية فرضتها الإرادة ‏العربية التي تستطيع، متى شاءت، أن تستند إلى حقيقة قدرتها على الفعل والإنجاز وتغيير ‏التاريخ ‏

‏بين حربين

في آخر تصريحات هنري كيسنجر، الشهير الغني عن التعريف، مهندس مرحلة ما بعد حرب ‏تشرين التحريرية، عشية الاحتفاء بذكراها الخمسين (وقبل وفاته في 29 من تشرين الأول ‌‏2023 وحيث شاء القدر أن يشهد تكرارها من دون أن يمتد به العمر ليشهد أيضاً انهيار ما ‏هندسه).. قال كيسنجر: لقد غيرنا شكل الحرب «حرب تشرين» وخريطتها، أردنا منع العرب ‏من تحقيق الانتصار. ويضيف: «كانت إسرائيل تنهار أمام الجيشين السوري والمصري اللذين ‏كانا يتقدمان على كل الجبهات.. كان علينا التدخل بصورة حاسمة، كنا مصممين على منع أي ‏انتصار عربي، وعلى إعادة الوضع إلى ما كان عليه»، وما لم يقله كيسنجر حينها، أن الهدف ‏الأساس الذي عملت عليه الولايات المتحدة طوال العقود الماضية، هو منع حرب ثانية على ‏غرار حرب تشرين 1973.‏

أما وقد وقعت «حرب ثانية» فلا بد من العودة إلى الهدف الذي أعلنه كيسنجر مع التأكد هذه ‏المرة أنه لن تقوم أخرى ثالثة، وهذا يستدعيه افتراض نجاح هذا الهدف، فحتى الآن ورغم ‏ذروة الوحشية التي يعتمدها كيان العدو ضد غزة ولبنان إلا أن الأميركي لا يبدو واثقاً بالصورة ‏التي يريدها، لذلك لا بد من توسيع الجغرافيا لكتابة تاريخ جديد للمنطقة.‏

شاءت الأقدار، أو التدبير والتخطيط والتنفيذ، أو النيات ربما، أن تتزامن عملية طوفان الأقصى ‏مع الاحتفاء بذكرى حرب تشرين التحريرية، أياً يكن الأمر «ظاهره وباطنه» هنا اتفاق عام ‏على أن كلتيهما غيرت وجه المنطقة «والعالم.. إذا ما أخذنا الوضع الدولي في السبعينيات ‏وظروف الحرب الباردة»، نحن هنا لا نستطيع إلا أن نربط ونقارن وإن كان المسار افترق، ‏وإن كانت الوحشية الإسرائيلية بلغت أقصاها قبل أيام قليلة من حلول ذكرى حرب تشرين ‏الـ51، مع ارتفاع هائل لمنسوب المخاطر التي باتت تحيط بالمنطقة.. لكن لا يمكن إلا أن ‏نحيي ونحتفي بحرب تشرين بما يليق بأول حرب عربية على العدو الإسرائيلي/، وبما يليق ‏بأول نصر عربي «وإن لم يكتمل» إلا أنه أسس لجيل صنع مسار مقاومة ونضال وحقق ‏انتصارات، فلم يكن نصر تشرين وحيداً يتيماً مقطوعاً من جذع التاريخ كما أرادت له الولايات ‏المتحدة الأميركية، فكان لنا مع النصر محطتان بارزتان في عامي 2000 و 2006. ‏

يَعيب علينا البعض أن نحتفل بذكرى حرب تشرين التحريرية، ويقولون زوراً، ولغاية خبيثة ‏مشينة في أنفسهم، ماذا تبقى منها بعد عام من العدوان الإسرائيلي على غزة ثم لبنان، وحيث ‏بات محور المقاومة – الذي يحتفي خصوصاً وخصيصاً بهذه الحرب كتأسيس ومنطلق لمساره ‏وانتصاراته.. بات محوراً محاصراً مستضعفاً؟.. ماذا تبقى من العرب بعد عقد ونصف العقد ‏من ربيع عربي أحرق الأخضر واليابس؟

لماذا لا يحق لنا..؟!‏

لن نجيب على هذه الجزئية، ولن ندخل في مسار تفنيد وتكذيب وشرح وتوضيح، مادامت أن ‏المقاومة ما زالت في الميدان، ما يعنينا هنا لماذا لا يحق لنا الاحتفال، لماذا يجب أن يمنعنا ‏العدوان الإسرائيلي من الاحتفال، هل انتهى هذا العدوان، أو بعبارة أدق هل أغلق الميدان ‏ساحته على هزيمة نهائية لنا حتى لا نحتفل؟

لنعدل قليلاً في السؤال: أليس في استحضار الحروب، أياً تكن نتيجتها، وفي استحضار ‏المحطات التاريخية أياً يكن وجهها، أليس في استحضارها شحذ للهمم وشد للعزائم وتعظيم ‏لإرادة القرار وقوة الفعل؟.. أليس العدو الإسرائيلي نفسه يستحضر حرب تشرين في كل عام، ‏لأخذ الدروس والعبر وللهدف نفسه.. بل أكثر من ذلك هذا العدو ينشر على الملأ كيف يعمل ‏ليل نهار لتكون هذه الدروس والعبر قائمة ماثلة أمام أعين كل إسرائيلي كي يمنع حرباً مماثلة ‏وانتصاراً مماثلاً؟.. لماذا لا يحق لنا الاحتفال واستحضار النصر، إذا كان عدونا نفسه يعترف ‏بالهزيمة ويستحضرها لأسابيع قبل وبعد 6 تشرين من كل عام؟.. لماذا لا يحق لنا الاحتفال ‏بجيشين (ودولتين عربيتين) قهرا «الجيش الذي لا يقهر»؟

نعرف الأجوبة، كما الجميع، ونعرف الاهداف، والمُبيت من النيات، لكننا لم نيأس ولن نيأس ‏لأن المعادلة واضحة جداً. كانت حرب تشرين التحريرية نقطة تحول تاريخية فرضتها الإرادة ‏العربية التي شاءت وقدرت وقررت ونفذت، بالاستناد إلى قدرتها على الفعل والإنجاز وتغيير ‏مسار التاريخ ووضع الأمة في المكانة التي تستحقها إقليمياً ودولياً. ‏

المعادلة لم تتغير، والإيمان بها لم يتغير، وإن كان البعض يرى طرقاً أخرى لتحقيقها لكن بغير ‏سقف عربي، بغير حاضنة عربية، عبر كتل أو تكتلات وما يسمى «التفكير خارج الصندوق» ‏علماً أن هذا التفكير لا يحتم علينا الانسلاخ عن هويتنا وقوميتنا وعروبتنا وتاريخنا لكي نحقق ‏التغيير والتطوير والتفوق. نحتاج بلا شك أن نكون جزءاً من العالم، ولكن ليس الجزء ‏الضعيف المنهزم ونحن نملك مجتمعين كل أسباب القوة والتفوق.‏

ظروف استثنائية

طيلة العقود الخمسة الماضية، الكيان الإسرائيلي لم تؤرقه الهزيمة بقدر ما أرقه أن العرب ‏استطاعوا التوحد خلف حرب واحدة، قرار واحد، وأثبتوا أنهم إذا ما أرادوا، أمة حيّة قادرة ‏على الفعل وتحقيق الأهداف وخوض المعارك والانتصار فيها. حتى اللحظة الأخيرة لم يكن ‏الكيان الإسرائيلي ليصدق- رغم ما سربه له عملاؤه حول ساعة تشرين التي ستدق – كان ‏متيقناً بالمطلق من عجز العرب عن خوض حرب نظامية ضده وهو المتفوقة عسكرياً عتاداً ‏وجيشاً لا يُقهر.. وبدعم أميركي مطلق. أميركا نفسها لم تصدق حتى شاهدت بأم عينها ‏انتصارات الجيشين السوري والمصري حقيقة واقعة.‏

وإذا ما نظرنا إلى حالنا اليوم فهي أفضل مما كانت عليه في سنوات ما قبل حرب تشرين ‏التحريرية لناحية إدراك ووعي ماهية ما نحن عليه من قوة وقدرة على التأثير عالمياً، ولناحية ‏أننا كمنطقة ككل (خصوصاً في جغرافيتها العربية) نشكل حاجة عالمية ملحة، للحلفاء ‏والخصوم على السواء، وأننا لا نحتاج سوى إدارة جيدة – وتفكير جمعي عربي قومي – لما ‏نمتلكه من قوة، بل من فائض قوة ومن أسباب التمكن والتمكين.. وإذا كنا في عام 1973 ‏استطعنا وضع أول نقطة خصوصية تاريخية فارقة في تاريخ المنطقة الحديث رغم ما كان ‏عليه الكيان الإسرائيلي من فائض في القوة والغطرسة والدعم الأميركي/ الدولي، فكيف لا ‏يمكننا اليوم وضع نقطة ثانية، وكل الظروف مجتمعة بصورة استثنائية، لتمكيننا من تحقيقها؟

روح تشرين

لا جدال في أن الشهر الماضي كان فارقاً لما حمله من تطورات متسارعة وتصعيد عدواني ‏إسرائيلي وسع جغرافيا المجازر والاغتيالات والتدمير، وظلل احتفالنا بذكرى حرب تشرين ‏التحريرية لهذا العام، بسواد وغصّة. نحن اليوم أحوج لإبقاء روح تشرين حيّة متقدة، ليس فقط ‏للدفاع عن كل انتصار حققناه، بل لأن «الخطب طمى حتى غاصت الركب» ولأن المرحلة ‏المقبلة مرحلة فصل وحسم، ولأن الوقت بات داهماً، لا بد من قرار.. وإلا فلا سبيل سوى ‏النكوص والاستسلام لما يريد العدو فرضه علينا ببحر من الدماء والدمار.‏

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار