البُعد الإمبريالي للبَارَادَيْم
تشرين-ادريس هاني:
ليس من مصلحة الإمبريالية حدوث ثورة العقل، بالمعنى الذي تهتز فيه هياكل الباراديم «PARADIGM» بين الفينة والأخرى. إنّ الباراديم المجرد لا وجود له في سياق الاستبداد الشمولي لشبكة المصالح، إنّه موصول بالبضاعة، بالتمويل، بالاقتصاد السياسي للبحث العلمي. باتت الرأسمالية عائقاً موضوعياً للعلم، يتغير كلّ شيء، ونبلغ أجيالاً من الابتكار، لكنه يظل ابتكاراً في خدمة أمر جوهري ثابت في الاقتصاد السياسي للإمبريالية. ما يسمّى الأمراض المزمنة وصناعة الدواء، هو نتاج لهذه الإعاقة التي تستهدف المصير في مرتبة الباراديم. إنّ المكمّل الغدائي هو نفسه يستغلّ الفجوة الصِّحية وزيف الدواء، بكلفة تفوق القدرات الشرائية للمستهلك، وغير متضمنة في التّأمين الصحّي. تنافسية على استغلال الهشاشة الصحية الناتجة عن نمط الإنتاج والاستهلاك وتفخيخ الغداء بمكوّنات إخضاء الصحة لدورة الاستنزاف، الاستثمار في المرض لا مكافحة المرض، تصبح التغطية الصحية نفسها آلية لتعزيز الباراديم الصحّي. إنّ الصحة أكثر من التعليم يلزم أن تكون مجانية، بل وَجَب على المركز الرأسمالي تخصيص تعويض لضحايا المرض الناتج عن نمط الإنتاج الرأسمالي.
إنّ تعقيد الواقع ولا نهائيته تحثّنا على الحذر مما ينتج عن صدق فرضية ما في زمن ما، في شرط ما، لكن عند اختبار الفرضية في شروط أخرى، قد تفقد صدقيتها. ففي نمطنا الحديث غالباً ما تكتسب الفرضية لنفسها صفة الخلود، أو لنسميها: «hypothèse immortelle» شروط العقل الآتية من خارج مقتضيات الواقع نفسه، بل هي سُلطة باراديم موصول بشبكة المصالح. وداخل هذه الوضعية، تجري حراكات التحرر والثورة، وهي لا تتجاوز سقف ثورة العبيد، لأنّها مشدودة بقيود من حديد إلى نموذج غير مطروح للنّقاش. والفلسفة كالعلم كالأدب، تترنّح داخل باراديم منه تنشأ بداهات زائفة، تنتهي بحشر العقل والذهن البشري في شروط يَصعُب فيها استعادة الجوهر الإنساني، فالإنسانية لا تتحقق في وضعية الاستيلاب والاغتراب إن لم يتحرر الذّهن البشري أوّلاً من كلّ هذه الأوهاق المكبّلة، تبدو فكرة التحرر خداعاً حين لا يتحرر العقل ويُطلق سراح الذهن البشري من شروط عقود الإذعان في المعرفة قبل التجارة.
كما تُقدّم الرأسمالية علفاً استهلاكياً مزيّفاً وضارّاً بالصحة النفسية والجسدية، فكذلك تقدّم علفاً أيديولوجياً قِوامه شحن الدّماغ البشري واستنزافه بالمُلاوغة المجردة. ولئن سألتني عن مفهوم المُلاوغة المجردة، فإنّ المقصود من الملاوغة هنا هو المغالطة بواسطة اللغة، وأما عن الملاوغة المجردة، فهي حين تستقل الملاوغة عن الواقع وعن الشرط الإبستيمولوجي للمعنى، وتصبح حركة ميكانيكية تِقوالية بلا أفق معرفي سوى التَّسَيْطُر المتبادل في اجتماع هشّ، مما يورث الحنق والأحقاد والتّفاهات بلغة مِلؤها الكنايات الرّخوة والتكرار وسوء تدبير المعنى.
لم يعد الذهن البشري حُرّاً، ومن هنا فتحرير العقل من هياكل الزّيف والتكرار الماحي لِمَلَكَة الحكم والذّوق، الذي يتهدد المقولة المنطقية والأذواق الجمالية، لعالم يواجه الرّداءة في العقل والقلب، عالم في حالة هروب مرضي من المعنى، في سياق نمط حداثي عند التمثّل الرّخو، تصبح حداثة عبيد لا حداثة سادة، وحتى في مركزها لا تخضع الحداثة إلى عدالة التوزيع، فهي نفسها خلقت وضعية عبيد الحداثة وسادتها في مجتمعات طبقية مشحونة بالوهم، لطبقات وُسطى ساذجة حضارياً، منهمكة في أيديولوجيا استهلاكية موهمة لهذا الدازاين «الهيدغيري» بزمانية زائفة بضاعية لا حرية فيها للاختيار، تخضع لعقود إذعان قهرية لا لعقد اجتماعي حرّ.
في حداثة العبيد تنقلب المفاهيم، فالعقلانية والحرية هي لمركز المركز إلى حدّ ما، وهي عند المنحدر الاجتماعي الطبقي، هي عقلانية عبيد الحقل، وحرية مشروطة بتقديم الخدمات القهرية، عبيد مقيدة بسلاسل طويلة في حدود مجال العمل، وعقلانية حارسة ومحروسة لنموذج تفكير تحدده السّوق ومقتضيات السّيطرة ومكانته في تراتبية الإنتاج. العقلانية والحرية أوهام ضاحكة «كالبقرة الضاحكة» في اجتماع حداثة العبيد. ولكي نزيد المفهوم بياناً، فليس هذا التقسيم هو بين حداثة المركز وبين حداثة الهامش، ما يقتضي توزيعاً غير عادل للعمل، بل أقصد أيضاً أنّ داخل المركز ثمة مركز-المركز، وهامش المركز، فتتكرر الوضعية المأساوية.
إنّ خاصية حداثة العبيد هي استنزاف التّفاهة للملكات الإنسانية، لكيلا تشعر بالفقر الأنطولوجي الذي يجب أن يُحدس لا أن يعقل بشروط عقلانية مشروطة بعقود إذعان باراديمية. كل ما في هذه البرّية بات خاضعاً للاستنزاف، إنهاك منهجي للدماغ داخل اللاّمعقول، لم تُخدع البشرية مثلما خُدعت اليوم، على الرغم من ثوراتها العلمية الموجهة وغير الحرّة.
ومع كلّ ثورة علمية تخسف الأرض تحت المعذبين في الأرض، يحدث مزيد من الشرخ في نسيج الدازاين، بل حتى وعي الدازاين بمتاهته وقلقه بملامحه الهيدغيرية، لم يعد صالحاً لتوصيف مصير كائن يتآكل ذاتياً وموضوعياً، ذلك لأنه كائن غير مهتم بأنّه مقذوف به هناك، هو غير آبه لا بالبدايات ولا بالنّهايات، كائن مستغرق في لحظة لا زمنية، أي لا تتموضع جسراً بين ما كان وما سيكون، بل لحظة مُعلّقة مشحونة بالزيف وعود التّفاهة الأبدي، وبالتّالي باتت بقية النّوع في منحدر من التّفاهة الأنطولوجية الحادّة التي تتطلب «أوفر دوز» من الترياق المنشّط لتحقيق الانقلاب داخل الدّماغ البشري، لتعميد أنطولوجي عام واستبراء عقلي قبل استئناف مسار تهجّي المعرفة من جديد. لا يمكن تحقيق الانقلاب الأعظم في الذهن البشري بشروط وقواعد ومقولات النموذج الفكري الرّاهن.