رسَّخ مفهوم القصيدة الكيانية المستقلة.. “بعض نزف من عذوبة” لعلم الدين عبد اللطيف
طرطوس- ثناء عليان:
يا للهوى..
في الوعد شُيّد لهفتي..
وأنار نجماً في الخيال وأطفأه
وعلى شواطئ بحره
في الحلم أوصد مرفأه
ما كان يشكو في الفصول صقيعه
في الحلم أوصله الصقيع وأدفأه
أبداً كما هَجْس القلوب
إن تجاذبها المغيب
أو جاورت وعد الشواطئ
أن تبددها الرياح
فترتمي نظراتها
وترى الطيوف على الشواطئ
مُدفأة.
هذه الشذرات مختارة من ديوان “بعض نزف من عذوبة”، للأديب علم الدين عبد اللطيف الصادر حديثاً عن الهيئة العامة السورية للكتاب، واحتفاءً بهذا الديوان أقام فرع اتحاد الكتاب العرب في طرطوس ندوة بحضور ثلة من الأدباء والمثقفين، وبمشاركة كل من الشاعر منذر حسن، والأديبة ميرفت علي اللذين قدما قراءات نقدية للديوان.
فقد أكد الشاعر منذر حسن أن قصائد الديوان تعود بالنفس إلى سجيّتها الأولى، لغةُ البدء، اللغة الأمّ الخالقة.. منذ ضربها أوّلُ برقٍ ..جعل دروب الشعراء ممكنةً.. وبيّن أن الشاعر لم يكترث بوضع عناوينَ لنصوصه، كما لم يفصل بين الشعر المكتوب شعراً والشعر المكتوب نثراً.. لكنه كتب في ختام نصٍّ له:
/بعد أن تمحوَ أيها الشاعر
خطوطَ قفصٍ..
رسمتَه بقصيدتك على الأغصان
انتظر..
أن يطيرَ الحمام./.
ولفت صاحب “شموخ السنديان” إلى أن الشاعر أخذ منحىً صوفيّاً، وقال: فأنا أعرفه وأعرف الكثير عنه، ما يجعلني أميَل للحالة المعرفية لديه، أو ربّما لمشروعه الشعري، بتلك المعاني المستقصاة لديه إن صحّ التعبير، وحتى إن أغرنا قليلاً على قضيّة الشكلانيّة عنده فإنّ عدم التعصّب لشكل من أشكال الشعر هو الواضحُ لديه، حتى بشأن الحداثة فإنه يفصل بين تطوّر القصيدة العربية عنده وبين تجربة الحداثة، وقد عبّر عن ذلك مراراً خاصة في كتبه النقدية، وآخرها أفرده لمسألة الحداثة موضحًا أن النص النثري لم يكن وريثاً لتطوّر القصيدة الكلاسيكية، بل إنه بمثابة جنس أدبي له كينونته الخاصة وملابساتُ نشأته..
وختم حسن بأن الديوان يستحق دراسة معمّقة، خاصّة في الجانب النّثري منه، انطلاقًا من أهميّة التجربة التي خاضها الشاعر، نثراً وشعراً ونقداً أدبيّاً
فيما تمحورت مشاركة الأديبة ميرفت أحمد علي حول تعريف الحداثة الشعرية كما وردت عند الشاعر أدونيس في كتابه (الثابت والمتحول)، فقد رأت أن الحداثة الشعرية تتمثل في التفاف الشاعر حول الذات الإبداعية وعدم الالتفات إلى ما بعدها، والشعر الحديث أخفقَ حين لم يرسِّخ الذات الإبداعية في التجربة الشعرية.. فالشعر– تضيف علي- هو خلق لجمالية إيحائية لا تحيل إلّا إلى ذاتها ولا تُقرأ إلّا انطلاقاً منها وتأسيساً عليها، وبهذا المعنى الذي رسَّخه أدونيس انطبقت معايير الحداثة على تجربة الأديب المتنوع علم الدين عبد اللطيف، فقصائده عبَّرت عن رؤيوية خاصة، ووجودية، ورسَّخت مفهوم القصيدة الكيانية المستقلة، كما تأثرت المضامين بهذه الخصوصية الشعرية فأتى مفهوم الصوفية في مناهجها وتصوراتها ومفرداتها حاضراً بكثافة في الديوان، جنباً إلى جنب مع الشعر الغزلي الموسيقي المتخفف من الفلسفة الذي يشبه نظيره في العصر العباسي والأندلسي.. ورأت صاحبة “السيرك” أنَّ شيئاً من أثر التفكير الاعتزالي قد ورد في بعض التوجهات الشعرية من تقديم للعقل والفكر على النقل والسمع، ووجدت في هذا الشعر الحضور الطاغي والمكثف للطبيعة كبيئة ومكوِّن جغرافي وعناصرها حاضرة بقوة، مثل: “الريح، الزبد، الموج، الليل، القمر، السماء، الزرقة، الينبوع، الشجر، الماء…”.
كما خصَّ الشاعر– حسب علي- الحزن بالتفاتة وبنظرة تبجيل، فالحزن رفيق العشاق، والسمَّار، والشعراء، والموعودين بأحلام مؤجلة، وقد تأثر الشاعر بالثقافة الواسعة التي حصَّلها على مدى سنوات طويلة، فظهر التأثر بالشعر القديم وبالفلسفات الموروثة، وبعلم الفلك والرياضيات وظهرت الإشارات المرجعية إلى التراث الشعري والقرآني.. وتوقفت عند تحليل بعض القصائد من حيث المضامين والأسلوب والنهج المتَّبع، مركزة على العناصر اللغوية والجمالية الفنية الحاضرة كدعائم وركائز متَّنت الصنعة الشعرية وأقامت لها بُنياناً صلباً.
ولفتت صاحبة ” النوخذة والعاصفة” إلى أن الأديب عبد اللطيف طرحَ الوطن كحلم قصي في نفوس الشعراء، وأشارَ إليه إشارات خفيفة عابرة، أمَّا السلام فجاءَ نداءً لحلم الشعراء المشتهى، واستعانَ عليه الشاعر بالحمام وبترميزات أخرى عديدة.
وبرأيها، لم تخلُ القصائد من التلاعب الشكلي لإبعاد الروتين عن تلقي القصيدة الموزونة المقفاة، أمَّا الخيال فقد كان تحليقاً متفوقاً في القدرة على التصرف بالرمز والمدلول وبناء صُور شعرية ذات مغزى قصدي وتلميحي أخاذ وجميل.