بين الفلسفة والرواية.. الخسارةُ في عالمٍ متهاوٍ
تشرين- حنان علي:
( اليوم بيتي ممتلئ بصور الخيول، ومن يزرني لأول مرة يسألني إنْ كنت فارساً، بينما الحقيقة الوحيدة هي أنني مازلتُ أعاني آثار السقوط من سرج حصانٍ لم أمتطه أبداً.. أحدٌ ما لم يلاحظ، لكن روحي تسيرُ عرجاءَ منذ سبعين عاماً).. ما فتئت الخسارات في ذكريات (ساراماغو) الصغيرة ، تجارب إنسانية لا تستثني أحداً، ولا تتوانى عن الحفر عميقاً في أفئدة البشر في سبيل منحهم فرصة لاكتشاف الذات وتحديد القيم والأولويات في الحياة. فلا تتوقف الخسارة عند فقدان شخصٍ عزيزٍ أو فرصة مهمة، بل قد يتكبد أحدنا ضياع حلم أو طموح أو حتى خسارة النفس عينها، على حدّ تعبير الماغوط: ” الموت ليس الخسارة الكبرى، الخسارة الأكبر؛ ما يموت فينا ونحن أحياء” .
كتب وروايات ونظريات أطفحت الفكر والأدب عبر الزمن، تحليل الخسارة، مكابدتها أو البحث عن معنى أو خلاص، هكذا نقل الكتّاب أفكارهم وأحاسيسهم فلسفة وأدباً ، بيد أن تطور البناء الفكري والثقافي للإنسان ما زاد فكرة الخسارة إلّا تعقيداً .
الخسارة والسوداوية عند (فرويد) مرتبطتان “بفقدان الموضوع الذي ينسحب من الوعي ونشأة علاقة مع الموضوع المفقود في اللاوعي.. لكن بينما تفصل الأنا نفسها ببطء وبألمٍ شديد «شيئا فشيئاً» — ومن ثَمَّ التقبل، والانتهاء بتوجيه الحب لموضوعاتٍ أخرى — فإن ما يُميِّز السوداوية هو المقابل تماماً؛ أي الرفض اللاواعي للتخلي عن الموضوع “.. فيما تركز نظرية التعلق للطبيب والمحلل النفسي البريطاني (جون بولبي)، على الميل البشري لتطوير روابط عاطفية قوية ليأتي الحزن استجابة غريزية عالمية للفقدان. بدورها تدافع الباحثة النفسية الهولندية (مارجريت ستروبي) عن نموذج العملية المزدوجة للحزن (1999 ) حين توضح أنّ الناس يتعاملون مع الخسارة على نحو جدلي، وينتقلون بين التكيف الموجه نحو الخسارة والتكيف الموجه نحو الترميم. إذ ينظم الأفراد أنفسهم من خلال مواجهة خسارتهم وتجنب الألم العاطفي الناجم عن الحزن..
فيما تقترح نظرية العقلانية أنّ الخسارة يمكن تحليلها وفهمها عبر العقل والتفكير النقدي. وبالتالي امتلاك القدرة على التعامل معها واستخلاص الدروس من تجارب مماثلة.
وبالانتقال إلى عالم الروايات أجد من الجيد الاستهلال مع وجهة نظر الفقيد لخسارته، وهذا ما جرى ضمن أحداث رواية (العظام الجميلة) للكاتبة الأمريكية (أليس سيبولد). . ففي إحدى أيام خريف 1973، و أثناء مرور (سوزي سالمون- 14 عاماً) بحقل ذرة في نوريستاون بولاية بنسلفانيا، يقنعها جارها الثلاثيني، (جورج هارفي) بأن تلقي نظرة على مخبأ للأطفال تحت الأرض قام ببنائه، فيغتصبها ويقتلها، ثم قطع جثتها ورماها بخزان داخل حفرة..
تهرب روح سوزي نحو جنتها الشخصية، لتشرع بمراقبة كيفية تعامل عائلتها وأصدقائها مع هذا الحادث ومحاولتهم الانتقال في حياتهم بينما تحاول التأقلم في مواجهة خسارتها.. حيث “بسرعة تتغير الحياة. وبلحظة تتبدل! تراك جالساً تتناول العشاء وإذ بالحياة التي تعرفها تنتهي. أي شفقة على الذات!” عام التفكير السحري لـ(جوان ديديون)، سيرة ذاتية تروي تجربة الكاتبة بعد وفاة زوجها المفاجئة وما قاسته من أحداث يومية. لتأتِ رواية «الوحش ينادي» للكاتب الأمريكي (باتريك نيس)، صاحب ثلاثية الخيال العلمي “الفوضى تسير” ، تحدثنا عن طفل يسعى لصداقة وحش على هيئة شجرة ليساعده على مواجهة موت والدته المصابة بمرض مميت.
وبتناول لموضوع الخسارة والأمل في ظل الظروف القاسية تبدأ رواية (الطريق) لمؤلفها (كورماك مكارثي) بداية كئيبة، عن رجل وطفله الوحيد (مجهولي الاسم)، يصارع الأب في سبيل إنقاذ طفله، من الأخطار المحدقة ، هائمين على وجهيهما بحثًا عن شاطئ البحر حيث يظن الأب بأنه الملجأ الوحيد. الرواية حازت على جائزة بوليتزر 2007.
ولعلّ الممثل الأمريكي (روبن ويليامز) كان محقاً حين قال “أنت لن تعرف شيئا عن الخسارة الحقيقية، إلى أن تخسر شيئا أحببته أكثر من نفسك”.. فماذا إن “خسرنا أنفسنا بعبودية القلب ونحن طلقاء” على حدّ تعبير الروائي الليبي إبراهيم الكوني؟!