في قلب الزحام

“آلية” نفسية عميقة شكّلتها الخبرة، هي التي تقرأ النصوص الأدبية، قبلَ قراءتها الحرفية: -رواية، قصة قصيرة؟ وهناك أيضاً رواية قصيرة وقصة طويلة، وغالباً ما يُترك للكاتب حريةُ التجوال في “غرف” و”أروقة” المكان الذي “هندسَه” بطريقته ومعرفته، وقلّما تُمَسُّ المساحات المعمورة أو المطروقة في بنائه، بحيث يتوجّه “النقد” إلى الأفكار والشخصيات والصراع والحبكة والعصر الذي تناوله الكاتب، خاصة إذا كان كاتباً راسخ القدم في فنه!
قال الروائي الشاب وهو على منبر في إحدى الندوات المخصصة لروائي “كبير” إنه لم يستطع قراءة روايته بسبب طولها وقد تجاوز عشرات الصفحات قافزاً على سطور وفقرات ليكمل ما يقرأ ويعرف مصائر ثلاث شخصيات رئيسة في الرواية!
كان القارئ “العصري” صريحاً وصادماً أمام الكاتب العتيق وجمهور الحاضرين أيضاً لذلك سألته إن كان قرأ “الحرب والسلام” لتولستوي” و” الأبله” “لديستويفسكي” باعتبارهما الأقرب إلى ثقافتنا التي احتفت بترجمة روائع الأدب العالمي، فقال بثقة وسرور: بالطبع قرأت لكلا الأديبين هاتين الروايتين وكلٌّ منهما بجزأين طويلين جداً لم يغفلا العناية بمسير الشخصيات والثراء المدهش للزمن الذي تناولاه! وفي الواقع كنت أريد إحراج هذا الكاتب الشاب الذي يبيح “التطويل” و”التقصير” حسب جنسية الكاتب، أو على الأقل حسب التقييم الشائع للأدباء، وإن كان ظلم الروائي السوري الكبير فإنه سلسلَ في ذاكرتي عشرات الروايات المزدحمة بالشخصيات بلا طائل، والمفارقة أن منها روائية “عالمية” تم تقييمها عالياً وكلما صدرت لها رواية، تصاعدت معها الأنشودة إياها التي مجّدت أولى رواياتها، التي كانت لافتة بحق، لكن بعدها صارت تعتمد غزيرَ الخيوط في النسيج وكيفما كانت “القطب” وبكل ما تيسر لها من الألوان! هي، بموضوعية، لم تعد تكتب “روايات” بل تسرد كلَّ ما يخطر ببالها، تماماً كصنع اللحاف السحري للأطفال من بقايا الأقمشة المتوفرة في خزانة المنزل حيث القصاصات المتبقية من الأثواب والقمصان والملاءات والمناديل والستائر، ومثلها العديد من الروايات “النسوية” التي نالت جوائز وطُبعِت وحُشرت في الصفحات الأدبية لمجلات متخصصة، أذكر أن إحداها لكاتبة عربية تقتل الحواس بالملل، لكن بؤرة الضوء فيها، كما رأى ناقدٌ “كبير”، هي الحديث الرفيع عن النسيج وتطوره خاصة “الكتان”! فهل هذا موضوع روائي أم فقرة في بحثٍ عن تطور الملابس ونسيجها من الصوف والقطن والحرير ثم الكتان فالخيوط الصناعية؟؟ وبين يدي الآن رواية طويلة، للمفارقة هي نسوية لكاتبة أيضاً، مليئة بالحشو والأفكار الذاتية والتفاصيل المتباعدة التي تفطن فجأة لضرورة الجَمع في نقطة فتعود إليها دون منطق، وفي حياكة، هي أبعد ما تكون عن البناء الروائي، وأقرب ما تكون إلى الزحام الذي لا يفضي إلّا إلى التباس الحواس!

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار