“عرّاب” الأدب الروسي الدكتور إبراهيم استنبولي: الترجمة شغف وعمل دؤوب وجهد متواصل من الثّقافة والتثّاقف
طرطوس- ثناء عليان:
“إبراهيم استنبولي” طبيب ومترجم وباحث في الأدب الروسي، ترجم إلى اليوم أكثر من ثلاثين كتاباً من الروسية إلى العربية، وتنوعت ترجماته بين الشّعر والرواية والقصّة، وله عدد من القراءات والدراسات العلمية في الأدب الروسي، وهو عضو اتحاد الكُتّاب العرب في سورية، وفي جمعية الترجمة، وعضو شرف في اتحاد كُتّاب روسيا، يكتب المقالة الأدبية في الدوريات السُّورية والعربية، كما نال العديد من الجوائز، وكان آخرها جائزة “الفارس الذهبي” في موسكو عن مُجمل ترجماته للأدب الروسي إلى العربية، وجائزة الشّاعر”إيغور غريغورييف” في سانت بطرسبورغ، وللحديث عن مُجمل أعماله في الترجمة، كان لنا هذا الحوار فإلى التفاصيل:
غياب مؤسسات تحتضن وتدعم عملية الترجمة من اللغة العربية إلى اللغات الأخرى
عن تعريف الترجمة
تعدّدت التعريفات حول الترجمة وتنّوعت وحتى اختلفت، فهل لديك مقاربة لتعريفها؟
مهما قِيل عن الترجمة فإنّها تبقى حاجة ماسّة لا يمكن للبشرية أن تستغني عنها، والمترجمون حسب تعبير شاعر روسيا الكبير ألكساندر بوشكين هم: “جياد التنوير العالمي” والترجمة وسيلة للتواصل بين الشعوب في أوقات الحرب والسلم، وأكثر ما تفيد في السلم، حيث تنقل منجزات الشعوب في ميادين العلم والأدب والفن وغير ذلك.
من المُلاحظ أنّ معظم العرب الذين ترجموا عن الروسية كان منهجهم دائماً في اتجاه واحد، أي من الروسية إلى العربية فقط، ولم نجد أحد من العرب من ترجم في الاتجاه المعاكس والأمثلة كثيرة. فلماذا برأيك؟
هذا صحيح.. والمشكلة ليست في المترجمين بقدر ما هي في غياب مؤسسات تحتضن وتشجع وتدعم عملية الترجمة من العربية إلى اللغات الأخرى، بما في ذلك إلى الروسية، فالغاية ليست الترجمة في حدّ ذاتها وإنّما: ماذا نترجم؟ وهل سيجد ما تتم ترجمته تسويقاً مناسباً؟ ومَن سيتكفل في تكاليف الترجمة والطباعة والتسويق؟
معظم الناشرين العرب لا يعرفون عن الأدب الروسي سوى القليل
باختصار: لكي تترجم عملاً ما من العربية إلى لغة أجنبية – يجب أن يكون هناك طرف واحد على الأقل له مصلحة في ذلك، وقادر على تمويل هذه العملية، وهذا غير متوافر في الترجمة من العربية، ولذلك نلاحظ أنّ جميع أو معظم الترجمات من العربية تكون بمجهود فردي وبمبادرة شخصية.
أثر الانهيار
برأيك هل أثّر انهيار الاتحاد السوفيتي سلباً في حركة الترجمة الروسية إلى العربية؟
بكل تأكيد، لكن هذه المسألة لها وجه إيجابي أيضاً، سابقاً كانت الترجمة محددة بما يتفق مع السياق الإيديولوجي، فكانت الترجمة في الحقبة السوفيتية تستبعد الأدباء “غير المرضي عنهم” سواء في الأدب الروسي الكلاسيكي أو المعاصر، ولذلك نرى اليوم طوفان في ترجمة الأعمال التي كانت محظورة في زمن الاتحاد السوفيتي.
أنا أقلّ مترجم أعاد ترجمة أعمال أدبية مترجمة سابقاً
ما هي المعايير من أجل نقل كتاب ما من الروسية إلى العربية، وهل ثمّة معايير لذلك؟
هذه مشكلة حقيقية على الأقل بالنسبة لي، أنا أزعم أنني أحد أكثر المتابعين سابقاً وإلى اليوم للحالة الأدبية والثقافية في روسيا، فهناك مَن يترجم حسب متطلبات السوق، وهناك مَن يترجم بناء على رغبات دور النشر، ومعظم الناشرين العرب لا يعرفون عن الأدب الروسي سوى القليل ومن مصادر غير روسية غالباً، لأنّهم وببساطة لا يعرفون اللغة الروسية، ولا يتابعون مجريات الحياة الأدبية في روسيا، ولذلك قد أترجم عملاً ما ولا أجد ناشراً له لأنّ العمل غير”دارج” ببساطة، أو لأنّ اسم المؤلف غير معروف على نطاق واسع، أو لأنّ موضوع الكتاب لا يُناسب “ذائقة” الناشر الذي قد يكون مجرد مستثمر في تجارة الكتاب.
ترجمة المترجم
عادةً نرى مترجمين عرب وأنت منهم ينقلون إلى العربية كتباً وروايات سُبِقَ أن تمّ ترجمتها، مثل رواية الليالي البيضاء “لفيودور دوستويفسكي” وغيرها، فما هو الدافع لإعادة ترجمة رواية سُبِقَ أن تُرجمت إلى العربية؟
أنا أقلّ مترجم أعاد ترجمة أعمال أدبية مترجمة سابقاً، علماً أنّ بعض دور النشر طلبت مني ترجمة أعمال معروفة لكتّاب روس كبار مثل: دوستويفسكي وتولستوي وبولغاكوف، لكني لم أفعل حتى الآن على الأقل.
أليس من خشية للمقارنة؟
مَن لا يعمل لا يُخطئ، والمقارنة مفيدة، مع أنّي وأكرر لم أترجم سوى عدد قليل جداً من أعمال سبق وتمت ترجمتها من قبل، والحق أقول: لقد أنجزتُ ترجمة بعض الروايات المترجمة سابقاً، لأنني كنت متأثراً فيها منذ أن كنت طالباً في الجامعة، مثل “سوار العقيق” التي قرأتها أكثر من مرة وأنا طالب.
ترجمتَ العديد من الأعمال الروسية في مجال القصّة القصيرة والرواية والشّعر، ولكن نرى أحياناً أنّك قمتَ بترجمة أكثر من عمل لكاتب معين مثل: رسول حمزاتوف، وألكسندر كوبرين، حضرة عنايت خان، وفلاديميرف، جيكارنتسيف، ما هو الدافع لترجمة أكثر من كتاب لمَن تمّ ذكرهم؟
لم أترجم سوى النذر اليسير من أعمال رسول حمزاتوف، وأمّا ألكساندر كوبرين فقد ترجمتُ له ثلاث روايات فقط، وسأعمل على ترجمة بقية أعماله، لأنّه كاتب عظيم، ورواياته تمجّد الجمال الروحي والحبّ في أسمى صوره.
هل الأدب الروسي نفسه في الوقت الحالي يقدّم كتّاب عظام أمثال تولستوي وديستوفسكي وتشيكوف؟
لقد مرّ الأدب الروسي في أزمة أبان الاتحاد السوفيتي وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ولكنّه اليوم يعيش حالة نهوض، لكن الرأسمال “الأوليغارشي” يدعم الأدب البعيد عن تقاليد الأدب الروسي العظيم، ويتجاهل الكتّاب والأعمال الأدبية التي تحاول العودة إلى تلك التقاليد، وسبق وقلتُ في مقدمتي لكتاب “أنطولوجيا الشّعر الروسي” الذي صدر في مصر قبل أربع سنوات، أنّ الأدب الروسي أشبه بغابات سيبيريا: مليئة بمختلف الثروات والكنوز، ويحتاج الأمر لمن يكشف عنها ويستثمرها.
ألكساندر كوبرين كاتب عظيم ورواياته تُمجّد الجمال الروحي
غزارة الإنتاج:
نرى أنّ لديك غزارة في الإنتاج، وخاصة بعد عام 2013، إذ نجد أنّ لك في كثير من الأحيان ثلاث أو أربع إصدارات خلال سنة واحدة، جميل هذا النشاط، ولكن ألّا تخشى من أن تُتهم بأنّك تهتم في الكمية على حساب النوعية؟
الأدب الروسي أشبه بغابات سيبيريا مليئة بمختلف الثروات والكنوز
كنت أتمنى أن تكون هذه “التهمة” صحيحة، لكن الواقع مختلف تماماً، لم يحدث أن صدر لي أكثر من عملين في السنة الواحدة، وهذا ربما كان مرة واحدة أو مرتين خلال العشر سنوات الأخيرة، والسبب لا يعود إلى غزارة الإنتاج، وإنّما لأنّ دار النشر تتأخر في بعض الأحيان لأسباب مختلفة، وإذ بالكتاب يصدر متأخراً عن وقته المقرر، فيجتمع مع عمل في دار أخرى، أيّ أنّها أعمال مُنجزة في سنوات مختلفة.
المترجم الأمين ينجح بمهارته في نقل روح العمل والحفاظ على روح المؤلف
أخيراً ما رأيك بمَن يقول أنّ المترجم هو مؤلف ثانٍ للعمل، أليس في ذلك خيانة للعمل الأول عندما يُعاد تأليفه طبعاً؟
هذا كلام بعيد عن الصّواب والدقة، فالمترجم الأمين لا يضيف أي شيء للعمل الذي يترجمه، وإنّما ينجح بمهارته في نقل روح العمل من ناحية، وفي الحفاظ على روح المؤلف من ناحية أخرى، أعتقد أنّ مقولة “الترجمة خيانة” باتت مقولة قديمة عفا عليها الزمن، ولا لزوم أو معنى لأن نستمر في تكرارها واجترارها، مع احترامي لمَن يكررها أو يقول بها.
الترجمة شغف وعمل دؤوب وجهد متواصل من الثّقافة والتثّاقف.