الباحث علي صقر أحمد يقرأ “في قصيدة كنعانية” أسطورة “أقهات بن دانيال”
تشرين- ثناء عليان:
حظيت النصوص الدينية الأوغاريتية باهتمام علماء اللغة واللاهوت، لأنها توضح جوانب مهمة من الفكر الديني الشرقي القديم عامة، والتي كانت قبل اكتشاف هذه النصوص مبهمة، وزاد في أهميتها أنها فصلت في النذور وما يرافقها من طقوس التطهير وتجهيز الذبيحة النذرية، كما أنها وضعتنا في لبِّ المجتمع الأوغاريتي من حيث العلاقات الأسرية والعائلية، وعلاقة الناس بالآلهة ونظرتهم إلى الكون ورموزه الطبيعية من الخلق والآلهة والخصب والجفاف وكل ما يتعلق بحركة الكون ..
من هذه النصوص اختار الدكتور علي صقر أحمد وهو باحث مختص بالآثار واللغات والحضارات السورية القديمة في محاضرته التي أقامها المركز الثقافي في طرطوس بالتعاون مع الجمعية العلمية التاريخية السورية تحت عنوان “قراءة في قصيدة كنعانية” نصاً مسرحياً لأسطورة “أقهات بن دانيال” برمزيتها الأدبية والدينية بيّن بداية أن النصوص الدينية الشعائرية دوِّنت على الأغلب بلغة راقية تشبه بأسلوبها اللغوي والتعبيري مثيلاتها من النصوص الدينية البابلية الأكدية، ويمكن القول إنّ معظم الأدب الديني الأوغاريتي يدور حول بعل وعلاقته بالآلهة، وقد دوِّن على ألواح عثر عليها في مكتبة (كبير الكهنة).
دونت القصائد –حسب أحمد- على ألواح طينية وقد اختلف العلماء في تصنيفها وترتيبها. وكذلك في إطلاق عناوين لها معتمدين في ذلك على قرائن لغوية ومعنوية، وقد اعتمدوا على الكلمة الأولى في اللوح التي تبدأ بصيغة (لـ ….)، وكان هذا الأمر شاقاً لأن الألواح لم تكن مرتبة حسب موضوعها، إضافة إلى ما لحق ببعض الألواح من تشويه.
وفي قراءة مختصرة لأسطورة “أقهات بن دانيال” بيّن الباحث أن الأسطورة تم اكتشافها عام 1930 حيث دونت على ثلاثة رقم طينية، وتتخلل سطور الأسطورة فجوات وتشوهات كثيرة وخاصة الرقيم الثالث، وبالتالي فإن تفاصيل كثيرة قد اختفت كانت ستضيف الكثير إلى معلوماتنا، إلَّا أنّ ما تبقى منها يعطينا الفكرة العامة للقصة.. وأشار أحمد إلى أن المشهد الأول من المسرحية الكنعانية يصف حالة الرمز القدسي المنعم دانيال وهو حزين محترق القلب مكسور الخاطر، لا يحظى بنعمة النوم ولا لذة الطعام والشراب لسبعة أيام بلياليها، يقدِّم النذور ويسقي الشراب للآلهة، ويبتهل لهم، وفي اليوم السابع يحظى دانيال ببركة ولطف وشفاعة الإله بعل الذي يقترب منه بحنو الأب لابنه بعد أن يرقَّ قلبه على الصالح المدلل والحزين البائس الذي حُرم من الذرية.
وحسب الباحث أحمد حرم دانيال من ولد ذكر أسوة بأخوته وأبناء عشيرته، إنه بحاجة إلى ولد ذكر يكون درة بيته وبركة معبده، ينوب عن أبيه في إحياء طقوس القداسة في الحرم المقدس، ويمنع عنه إهانة من يحتقره، ويطرد من يقلق نومه، ويأخذ بيده عندما يعود إلى البيت ثملاً، وكذلك ينوب عنه في تحضير وحضور المأدبة الدينية في معبدي إيل وبعل.
يقيم دانيال الاحتفالات في هيكله، ويكرِّم الكوثارات (ربات الولادة) التي يصفهن في النص بـ: (بنات الهلال، السنونوات) ثمَّ يعدُّ الوليمة لهن، يذبح ثوراً نذرياً، وتستمر الاحتفالات لسبعة أيام يقدم خلالها الطعام والشراب للكوثارات، وبعد انتهاء مراسيم الاحتفال يغادرن هيكله في اليوم السابع (ثمة فجوة كبيرة في النص بما يعادل عمودين كاملين 3 / 4) ربما يروي كيف ولد طفل لدانيال دعاه (أقهات) وكيف أصبح يافعاً.
وبينما كان دانيال منهمكاً في تفقد أمور رعيته ويجلس بين النبلاء على بيادر القمح، ويقضي حوائج الفقراء والأرامل، ويقيم العدل بين الناس، لاح له من بعيد الإله (كوثار) قادماً صوبه وبيده القوس وأربع جعاب، صاح دانيال مهلِّلاً بالقادم المقدس، وبعد أن استضافه مقدماً الطعام والشراب له، وتعبيراً من الضيف عن شكره لكرم الوفادة أهدى (كوثار) قوسه وجعابه للأمير دانيال الذي قام بدوره بتقدِّمته لابنه (أقهات)، ويوصيه بأن يقدِّم باكورة صيده قرباناً للآلهة في الهيكل.
وفي مشهد آخر تظهر الإلهة (عنات) قساوة ووحشية لم نرها في قصيدة (بعل) عندما ذرفت سخي الدموع على أخيها البعل بعد تواريه في العالم السفلي؛ فقد تجَّلت الأنانية والغيرة وحب التسلط في شخصيتها عندما رأت القوس في يد أقهات، وقرَّرت الحصول عليها مستخدمة أسلوب اللين والإغراء والترغيب في البداية عندما وعدت أقهات بالحياة الأبدية، تفقد عنات الأمل بمساعدة أبيها إيل أبي الآلهة، فتبدأ بنسج خيوط مؤامرة للانتقام من أقهات، فتختار لتنفيذ هذه المهمة (يطفن) وهو من عائلة الآلهة، أمَّا المكان فسيكون قرية أبلم (قرية الأمير ترخ)، وعندما تبلغ عنات يطفن بما تنوي فعله يجيبها مستنكراً متعجِّباً: “اسمعي أيتها البتول عنات! أنت من أجل قوسه ستقتلينه؟!”
لكن (يطفن) يخضع لإرادتها في النهاية خوفاً من بطشها، وتبدأ (عنات) بشرح خطة الانتقام له، وبينما (أقهات) يتناول طعامه ستحوِّل عنات يطفن إلى نسر وتخبِّئه في حضنها وتطير به بين سرب من النسور الجارحة وعندها ينقضُ على أقهات ويضرب رأسه وأذنه ويسيل دمه كما تخضِّب الدماء ركبتي القَّصاب، فتخرج كما الريح روحه، ويسيل اللعاب من فمه.
خرجت روح الأمير وخرجت معها طيب وخير السنابل، وجفت لرحيل سيدها وحلَّ الجفاف بعد خصب ووفرة رزق، أمّا دانيال الأب المفجوع فقد كان على البيادر يحصِّل حقوق الأرامل ويقضي حوائج اليتامى، فراعه أن رأى السنابل في يباس، ورأى النسور تحوم فوق بيته، أطلق دانيال صيحات اللعن والوعيد على (مررة) المكان الذي قتل فيه أقهات، ثم سار نحو قرية (أبلم) التي دعا على أهلها بالعمى، بعدها زار معبد الأمير المغدور ليعلن الندب والرثاء أياماً وشهوراً، وقدَّم القرابين والنذور، ونادى ابنته (فغة) لتجدَّ في البحث عن قاتل أخيها مخاطباً إياها: اقتلي قاتل أخيكِ .
استجابت الأخت لنداء أبيها، ولبست لبس الرجال المقاتلين تحت لباس امرأة متبرجة ويأخذ جمال (فغة) مأخذه في عيون القاتل وتجاريه في شرب الخمر، وعندما يأخذ الشراب مفعوله في رأسه يعترف لها بفعلته فتستل سيفها وتقطع رأسه، بعد حين يعود الإله الغائب وتعود معه البركة وتخضر السنابل وينزل المطر كما وعدها دانيال.