حين ينزلُ «عنترة وعبلة» إلى ساحات «الكاريكاتير» و«الفانتازيا»!
تشرين- جواد ديوب:
يلعب رسام الكاريكاتير السوري «حسن إدلبي» وزوجته الرسامة المغربية «وفاء شرف» على وتر القصة الأشهر في التراث العربي «عنترة وعبلة»، لكنهما يدخلان إليها من باب الحداثة والمعاصرة.
حداثةٌ فنيّةٌ مثيرةٌ للجدل، لكنها لا تقلّل أبداً من قيمة التراث كمخزون للهوية العربية، ولا تخدش المخيال الجمعي الذي يحتفظ بتلك الأقصوصة في الذاكرة الوجدانية كواحدة من أيقونات المرويّات الشعبية والسِّير الحكائية الخالدة.
وهكذا ينبشان مكنونات الحكاية بطريقةٍ طريفةٍ وأليفةٍ ومدهشة في الوقت نفسه، إذ رسما معاً بريشتين متمازجتين وأسلوبين متقاربين لوحاتٍ تعرِضُ لنا القصة أو «سكيتشات» مضحكة منها بتشكيلاتٍ جمالية كاريكاتورية يصبحُ فيها عنترة حاملاً «آيفونه» بدلاً من سيفه الذي طالما تغنّى به وعدَّه شرفَه وجوهرَ فروسيته، وتصبحُ عبلة كأنها واحدة من نجمات «السوشيال ميديا» وهي مشغولةٌ عن ابن عمّها العبسيّ بالتقاط صور «سيلفي» لها وللحصان العزيز بجوارها… لكننا نشاهد في تلك اللوحات عفوية وطزاجةً ومفارقات ساخرة غير منفّرة وأبعد ما تكون عن الفجاجة.
وكان إدلبي وزوجته شرف – في الكتاب الذي احتوى لوحاتهما التي سبق أن عرضت منذ سنوات في الشارقة مع نصوص للكاتبة سناء شبّاني- قد زخرفا ونمْنَما لوحاتهما الفانتازيّة، واعتمد كلٌ منهما على موروث بيئته الجمالية، إذ إن إدلبي تأثّر بثقافة مشرقية سورية وبفن الزخرفة الإسلامي وتلويناته المتنوعة، بينما قامت شرف بإضفاء ثوبٍ مغاربيٍّ للرسومات فيه نكهة الفنّ الإفريقيّ القديم، لكنهما متفقان على أن جوهر وروح أعمالهما إنما هو بالضبط هذه المفارقة الطريفة التي تفعل فعل المنشّط لذهن المتفرّج ليتمكن من التقاط لمعاتِ السخرية الحاملة لأفكارٍ معاصرة تهمّ جمهور اليوم أكثر مما تدغدغ فكرة التشبّث بالماضي التليد وقبوله على ما هو عليه لمجرّد كونه تراثاً حكائيّاً جمعياً.
ولعلّ هذا أصلاً يحيلنا إلى «قوّة» هذه الملحمة العشقية النادرة بين الثنائي الجميل «عبلة وعنترة العبسيّ» ويشير إلى عظمتها كمرويّةٍ شعبية تختزن أكثر بكثير مما هي عليه، ولتصبح ليس فقط إرثاً لجمهور عربيٍّ أو تركة من الأسلاف، إنما لتتحول بلمسة الفنّ وجموح الخيال إلى تراثٍ إنسانيّ يمكن أن ننبش منه تِبْرَ الحكايات الأصيلة وسرّها الكامن.
وربما لذلك أيضاً وبمفعول السّحر العابر للزمن والتاريخ والجغرافيا تقاطعت رؤية هذين المبدعين مع الحسّ الفكاهي العالي عند الروائي السوري خليل صويلح، إذ كانت قد أثمرت جينات إبداعه -في زمنٍ أسبق على لوحات إدلبي وشرف- نصّاً فانتازياً فريداً ضمن كتاب صويلح المعنون بـ«ضدّ المكتبة/دار نينوى» يدور في فلك الحكاية ذاتها، وأيضاً بطريقةٍ مسلّية وجاذبة.
إذ يتخيّل صويلح شاعرنَا/العاشقَ الأسود متجوّلاً في شوارع الشام فيحكي لنا عنه: «كان عنترة يقف في طابور أمام إحدى المكتبات للحصول على نسخة من كتاب «أجمل ألف رسالة حب قصيرة» آملاً أن يجد رسالةً تطيح بقلب عبلة إلى الأبد(…) ثم «نهض قيس وحبيبته ليلى التي تعرّف إليها على «الفيسبوك» ليمضيا السهرة في إحدى حانات باب توما وبقي عنترة وحيداً وحائراً، وبينما هو يرتشف «الكابوتشينو» على مضض لعدم توافّر القهوة العربية في المكان، دخل رجلٌ بائسٌ رثّ الثياب سأله عنترة عن قبيلته فأجابه: أنا «فلورنتينو» بطل رواية ماركيز «الحب في زمن الكوليرا»، وروى لعنترة مكابداته في عِشْق «فيرمينا» وكيف انتظرها 53 سنة وستة شهور و11 يوماً، وغادرا معاً إلى فندقٍ في ساحة المرجة»!.
هذا الطِباق الشعريّ التخييلي بين (صويلح) و(إدلبي وشرف) يعود في اعتقادي إلى الجينات الإبداعية الموجودة في حبل سرّة يربط المبدعين جميعاً أينما كانوا في هذا الكوكب العجيب، وكأنه أيضاً جاء ليجعلنا نتقبّل أولاً: القدرة على تحمّل الفكاهة والسخرية مما يُعَدُّ قسْراً «محرّماتٍ» أو «تابوهاتٍ» شائكة، وثانياً والأهم: هو أن ذاك النص وتلك الرسومات الكاريكاتورية إنما هما حيلةٌ سحريّةٌ مدهشة تجعلنا نتقبّل فكرة أن الحياة (حتى حياة الأبطال الأسطوريين الذين يبدون في فترة من التاريخ خالدين وغير قابلين للموت مثل عنترة ) هي حياةٌ محكومٌ عليها بالهزيمة أمام الزمن السرمديّ… ولهذا السبب بالضبط نتحمّل ثقلَ الغيب ومجاهله وضبابيته!